بين برد الشتاء وصمت الخيام
الشتاء في غزة امتحان وجود، يُكتب على أطراف الخيام المبتلة، ويُحفر في صدور النازحين مع كل هبة ريح، فالمطر حين يهطل، يتحول إلى ذاكرة مفتوحة، تستدعي البيوت التي غابت، والطرقات التي انطفأت، والأيدي التي كانت توقد الدفء في زوايا المنازل.
تحت سماء مثقلة بالغيوم، تمتد الخيام كجروح مكشوفة، تحتضن أجسادًا أنهكها النزوح، وتحاول حماية ما تبقى من حياةٍ تتشبث بالأمل.
في هذا العراء، يبدأ النهار بنداء خفي: طفل يرتجف، أم تجمع أطراف البطانية حول صغارها، أب يحدق في الفراغ بحثًا عن طمأنينة مؤجلة.
الخيمة تصبح وطنًا مؤقتًا، تختصر معنى الأرض حين تضيق الجغرافيا، وتتحول إلى مرآة لوجع شعبٍ يواجه الشتاء بصدرٍ مفتوح وإرادة صلبة.
كل قطرة مطر تضرب القماش، توقظ حكاية اقتلاع، وكل نسمة برد تعبر الأجساد، تذكّر بأن الصمود فعل يومي يتكرر بصمت.
هذه السطور تنبع من قلب الخيام، من همس الأقدام فوق الطين، من أنفاس الأطفال المتقطعة، من دعاء الأمهات حين يشتد البرد ويطول الليل.
غزة تحت الخيام تروي سردية وطن، يُصارع الفقد بالثبات، ويواجه الشتاء كما واجه كل المحن، بالإيمان بأنّ الكرامة تنمو حتى في أقسى الظروف، وبأنّ الدفء الحقيقي يولد من روحٍ تعاند الانكسار.
فعندما يحل الشتاء على غزة، لا يأتي معه سوى الصمت، والبرد، والألم المستمر. الرياح تنفذ إلى العظام، والمطر يتسرب إلى الخيام التي لم تُبنى لتقاوم فصل الشتاء، تاركًا سكانها في مواجهة قاسية مع الطبيعة، كما لو أن الأرض نفسها تشاركهم معاناتهم.
في هذه الخيام، تصبح الحياة اختبارًا يوميًا للصمود، والدفء حلمًا بعيد المنال، والسكينة مجرد وهم يختفي عند أول هبة رياح.
إنّ الحديث عن نازحي الخيام في غزة هو كشفٌ للوجدان الإنساني، ومحاولة لرسم صورة صادقة عن البشر في أقسى ظروفهم.
كل خيمة هنا هي شهادة على النزوح القسري، وكل وجهٍ يحمل قصة فقد، وكل جسدٍ يرتعش تحت البرد، يروي صراعًا حقيقيًا مع الطبيعة والحياة.
الخيام: مأوى هش وذكريات مؤلمة
الخيام ليست قماش ومخروط خشبي فقط، بل هي مسرح يومي لمعاناة لا تنتهي. تتساقط مياه المطر على الأرضية الرطبة، وتصبح الأرض باردة وموحشة، تبتلع كل خطوة وكل حركة.
الأطفال يجلسون على بطانيات رقيقة، يحاولون تدفئة أجسادهم المرتجفة، بينما الآباء والأمهات يحاولون حماية كل ما تبقى من كرامتهم وحياتهم البسيطة.
هنا، كل شيء هش: الأرض، الجدران، وحتى الحياة نفسها.
ولا تقتصر المعاناة على الجسد، بل تمتد إلى الروح من فقدان الخصوصية، وفقدان الأمان، وفقدان الشعور بالمنزل، يجعل من كل يوم داخل الخيمة تحديًا نفسيًا كبيرًا. هنا يصبح القماش والخشب والبطانية رمزًا للصمود، لكنه في الوقت نفسه تذكير دائم بالهشاشة، وبأن الحياة يمكن أن تنهار بمجرد هطول المطر.
الطفولة في الشتاء: بين البرد والجوع
الأطفال هم أكثر المتأثرين، فأجسادهم الصغيرة تتعرض للبرد القارس، وملابسهم الرقيقة لا تحميهم من قسوة الطقس، ووجوههم التي يفترض أن تبتسم وتلعب، تتجمد على الألم والصمت.
يمكن أن ترى طفلًا يحاول اللعب بورقة جافة تسقط من شجرة مجاورة، وكأنها اللعبة الوحيدة المتاحة له.
كل دمعة، كل تنهيدة، كل ارتجاف جسد، يروي قصة مأساة حقيقية لا تحتاج إلى مبالغة لتكون مؤثرة.
وبينما يسعى الأطفال إلى البحث عن لحظات فرح، يواجهون صعوبة الحصول على الطعام الكافي، في ظل ضيق الموارد ونقص المساعدات تصبح وجبة واحدة في اليوم إنجازًا، وكل يوم جديد اختبارًا للبقاء، لتصبح الطفولة هنا مرآة للحياة نفسها: صراع من أجل البقاء وسط البرودة والجوع والخوف.
الشتاء والمرض: معاناة مضاعفة
البرد والمطر ليسا مجرد عناصر طبيعية، بل يصبحان أعداءً مباشرَين للنازحين. يزداد انتشار الأمراض الموسمية، من نزلات البرد إلى الالتهاب الرئوي وأمراض الجلد، في ظل نقص أدوية التدفئة والرعاية الصحية. الخيمة التي يفترض أن توفر الحماية تتحول إلى مكان يكتظ بالمرض والمعاناة.
هنا، كل نفس يصبح صراعًا، وكل حركة تحمل مخاطرة، وكل دمعة تعكس ألمًا مضاعفًا.
شهادات النازحين: وجوه من الواقع
"أمي… أنا بردان جدًا"، تقول طفلة صغيرة بصوت خافت، بينما تجلس إلى جانب أخيها الأصغر داخل بطانية رقيقة.
الأم تحاول أن تخفي ارتجافها، وتقوم بتحريك الفحم داخل الموقد الصغير لتدفئتهم. صوت المطر على القماش يزداد، والطفلة لا تعرف إن كانت ستنام الليلة دافئة أم لا.
في زاوية أخرى، رجل مسن يجلس على مقعد صغير، يدعو الله أن ينتهي الشتاء سريعًا، وأن يمد يده لتخفيف البرد عن أحفاده.
إنه نزوح من الأمان والدفء والاستقرار، ونزوح من الحياة نفسها.
الصورة الإنسانية الكبرى
كل خيمة هنا تحتوي على قصة، وكل قصة مرآة للإنسانية في أقسى حالاتها.
الأم التي تحاول حماية أطفالها من البرد، الأب الذي يضغط على قلبه خوفًا من المرض والجوع، الأطفال الذين يبحثون عن لحظات فرح وسط الشتاء، كلهم يذكروننا بأنّ المعاناة الإنسانية لا تعرف حدودًا، وأن الصمود البشري يتجلى في أبسط الأفعال: البطانية، الموقد الصغير، قبلة على جبين طفل يرتجف.
في النهاية، الشتاء في غزة اختبار للإنسانية، ودعوة لكل ضمير حي أن يتحرك، ولكلّ قلب أن يشعر، ولكلّ يد أن تمدّ.
فكلّ غطاء، وكلّ دفء، وكلّ دعم إنساني يُقدم للنازحين هو أكثر من مجرد مساعدة مادية؛ إنه إعلان بأنّ الإنسانية لا تزال موجودة، وأنّ الأمل قادر على الصمود حتى في أحلك الظروف.
