الفرادة في الشعر

ما يعجبك في المتنبي إضافة إلى شعره العالي القيمة هو أنه شاعر منصف،يقول الحق ولو على نفسه،وما دام هو شاعر حقيقي ويعرف الشعر حق المعرفة فلا يهمه رأي مخالف من الغير يرى فيه ما لا يرى في نفسه،ومناسبة كلامي هذا هو أنني أريد أن أطلع القارئ على رأي له ـ المتنبي ـ في حق نفسه بالذات وفي حق أقنومين آخرين هما أبو تمام و البحترى,فقد نسب له أنه قال:

"أنا وأبو تمام حكيمان...والشاعر البحتري".

وهؤلاء الثلاثة في الشعر اعتبرهم ابن الأثير في إحدى المرات بأنهم يشكلون لات الشعر ومناته وعزاه.وأعتقد أن ابن الأثير على قدر علمه بالشعر كان صائبا ولم يكن مبالغا في هؤلاء الثلاثة.

إن القارئ المتأمل لشعر هؤلاء الثلاثة يجدهم مختلفين في ما بينهم حتى ولو اشتركوا في تناول معان بعينها سواء في المدح أو الرثاء أو في أغراض الشعر الأخرى.

لنقرأ أبا تمام ونلاحظه في قوله:

نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى
مـــا الــحُــبُّ إِلّا لِــلحَبيبِ الأَوَّلِ
كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى
وَحَــنــيــنُهُ أَبَـــداً لِأَوَّلِ مَــنــزِلِ
ولنقرإ البحتري ونلاحظه في قول:
أتــراني مستبدلا بك ماعـشـ
ـت بديلا ،أو واجدا منك ندّا
حــاشّ لــله أن أفــتـن ألــحا
ظا وأحلى شكلا وأحسن قدّا

ولنقرإ المتنبي ونلاحظه في قوله:

وَمــن لمْ يعشقِ الدنيا قديمًا؟
ولــكِنْ لا سَبيـــلَ إلى الوِصالِ
نصيبُكَ في حياتِك من حَبيبٍ
نصيبُك في منامِكَ مِن خيالِ

إننا إذا نحن تأملنا هذه الأبيات وفهمناها حق الفهم تأكدنا أن الشعر هو في حقيقته تعبير عن شخصية الشاعر،وأن الاختلاف بين شاعرين أو أكثر في التعبير عن موضوع واحد مع الاستجابة فيه ـ في الموضوع ـ لعاطفة مشتركة يمكن رده إلى شخصية كل شاعر منهم حسب الموقف من الحياة ومن زاوية النظر إليها حسب كل شاعر.

وعليه يمكن أن نقول بكل اطمئنان بأن أسلوب كل شاعر يختلف عن الآخر في الموضوع الواحد تبعا لاختلاف الشعراء في الطبائع وفي الرؤى.وهو ما يحمل على وجود فروق قد تكون دقيقة وقد تكون واضحة جلية تلمس باليد.

وهذا هو ما يجعل كل شاعر يشكل طينة لوحده لا يشترك فيها مع أحد ولو تناول هو وآخر نفس الموضوع.

إنه الشعر وتلك طبيعته التي لا تقبل إلا أن تكون نسخة واحدة فقط،ولا تقبل التعدد.وهو مانعنيه بالفرادة في الشعر.
محبتي للجميع.​