اللاهوت وعصرُنا
حين يستعيد الإنسان وجهه في مرآة المعنى**
في كل عصرٍ تتغيّر ملامح الإنسان، لكن شيئًا واحدًا لا يتغيّر:
ذلك الارتباك العميق الذي يسكنه كلما واجه السؤال الأكبر:
لماذا نحن هنا؟
قد تختلف الأدوات، تتبدّل اللغات، تتسارع الإيقاعات،
لكن السؤال يبقى في مكانه، صامدًا كصخرة في نهرٍ يفيض بالحركة.
في هذا الزمن الذي يتقدّم فيه العلم بسرعة الضوء، ويتقهقر فيه الإنسان بسرعة الخوف، يصبح اللاهوت — لا بمعناه السلطوي، بل بمعناه الوجودي — دعوة للعودة إلى الذات، إلى مساحةٍ أصبحت مهمَلة في زحمة الانشغالات:
مساحة الروح.
أولاً: الإنسان الجديد… والحنين القديم
الإنسان المعاصر لم يعد ذاك الكائن البسيط الذي يطلب طمأنينةً في كلمة، أو عزاءً في ترنيمة.
صار أكثر تعقيدًا، أكثر تشظيًا، أكثر وعيًا بالخسارات الصغيرة التي تتسرّب من أيامه.
ومع ذلك، فهو لا يزال يحمل في داخله ذلك الطفل الذي يسأل بعينين واسعتين:
“من أنا؟
وماذا أفعل وسط هذا الكون الواسع؟”
إن التقدّم التكنولوجي لم يُلغِ السؤال الروحي، بل جعله أكثر إلحاحًا.
حين تتراكم الأشياء حول الإنسان ولا يجد نفسه بينها، يبحث عن معنى يعلو فوق كل الأشياء.
وهنا يتقدّم اللاهوت، لا كمجموعة إجابات جاهزة، بل كفنٍّ لإعادة الاتصال بالنفس، وبالآخر، وبالمطلق.
ثانيًا: زمن تتصدّع فيه اليقينيات وتكبر الأسئلة
لم يعد العالم محكومًا بحدود واضحة.
اختلطت الثقافات، تشابكت الهويّات، صار الجواب مؤقتًا، والسؤال دائمًا.
في هذا الارتباك، يبدو اللاهوت ضرورة: ليس لأنه يقدّم يقينًا، بل لأنه يعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان وما يتجاوز ذاته.
يذكّره أن المعرفة ليست بديلاً عن الحكمة، وأن الحرية تحتاج إلى بوصلة، وأن الضجيج مهما علا لا يستطيع أن يطفئ صوتًا صغيرًا ينادي من الداخل.
لقد أفرط عصرنا في تقديس السرعة حتى صار الإنسان يركض دون أن يعرف وجهته.
وأمعن في الاحتفاء بالإنجاز حتى نسي أن يسأل:
هل هذا ما يريده حقًا؟
هنا يظهر اللاهوت كاستراحة فكرية وروحية، كمساحة يُسمح فيها للإنسان أن يتوقّف، أن يتنفس، أن ينظر في مرآته دون خوف.
ثالثًا: نحو لاهوت يُشبه الإنسان… لا يُخيفه
اللاهوت الذي يصلح لعصرنا ليس ذاك الذي يتحدّث من فوق، بل ذاك الذي يمشي معنا.
لاهوت يعترف بأن الإنسان كائن هشّ، لكنه قادر على النهوض.
لاهوت يؤمن أن السؤال ليس خروجًا عن الإيمان، بل أحد أشكال الإيمان الأكثر صدقًا.
١. لاهوت يُقدّم الله كحضور، لا كفكرة
إن الله في التجربة الروحية ليس مسألة لاهوتية فحسب، بل خبرة تُعاش.
حضورٌ يُشبه الضوء: لا نلمسه، لكننا نرى بفضله.
٢. لاهوت يضع الإنسان في قلب الخطاب
الإنسان ليس تابعًا في قصة الكون، بل أحد أبطالها.
ولهذا يجب أن يبقى محترمًا، مسموعًا، مفهومًا.
٣. لاهوت يعترف بقيمة الاختلاف
في عالمٍ متقاربٍ حدّ الاحتكاك، يصبح الاعتراف بالآخر ضرورة أخلاقية قبل أن يكون لاهوتية.
الاختلاف ليس تهديدًا، بل نافذة على ما لا نعرفه عن أنفسنا.
٤. لاهوت يرى الجمال جزءًا من الحقيقة
فالحقيقة التي لا تتزيّن بشيء من الجمال تبقى ناقصة.
والجمال ليس زخرفًا… إنه طريقة أخرى للبحث عن الله.
رابعًا: أين يقف الإنسان اليوم؟
يقف الإنسان في مفترق طرق:
بين آلة تتقدّم وقلب يخاف أن يتراجع،
بين عالم يريد المزيد، وروح تطلب وقتًا لتلتقط أنفاسها.
إن اللاهوت — حين يتحرّر من قوالبه التقليدية — يصبح حوارًا مع هذا الإنسان:
حوارًا مع وحدته، مع أسئلته، مع قلقه الوجودي، مع جوعه إلى معنى لا تقدر الخوارزميات على صناعته.
فالإنسان لا يحتاج إلى يقين يكمّمه، بل إلى معنى يحرّره.
لا يحتاج إلى سلطة ترشده، بل إلى نور يرافقه.
**خاتمة:
حين يصبح اللاهوت فنًا للعيش**
اللاهوت، في شكله الأرقى، ليس نظريات ولا صراعات عقائدية.
إنه فنٌّ للعيش،
فنٌّ لفهم هشاشتنا دون تهشيمها،
فنٌّ لرؤية العالم كما هو، دون أن نفقد الأمل في ما يمكن أن يكون.
في نهاية المطاف، لا يبحث الإنسان عن إجابات نهائية،
بل عن مساحة تسمح له أن يكون إنسانًا:
أن يشعر، أن يفكّر، أن يخاف، أن يأمل، أن يُخطئ، أن يبدأ من جديد.
وهذا — في جوهره — هو ما يمنحه اللاهوت حين يتحرّر من صخبه،
ويقترب من الإنسان بصوتٍ يشبه الهمس:
“أنت لست وحدك…
وهناك دائمًا معنى،
حتى عندما تعجز الكلمات عن وصفه.”
