الخميس ٢٢ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم سليمان عبدالعظيم

المعارك الصحفية في العالم العربي

تمنحنا الصحافة مساحة كبيرة من الخروج على التعبيرات الفردية شبه المقموعة إلى التعبيرات بمعناها الجمعي الذي يتيح للآخرين إبداء الرأي سواء بالسلب أو بالإيجاب. وخطورة الصحافة، وربما الكلمة المكتوبة عموما في أي من وسائل النشر المختلفة، أنها حال انفلاتها بين أيدينا، تنقلب لتصبح حكما علينا. كما أن عملية النشر هذه تتيح للقراء قدرا كبيرا من الحكم على الكاتب.

فنحن نكتب لنعبر عن ذواتنا ومصالحنا وأهوائنا وأيديولوجياتنا. فلا توجد كتابة محايدة، كما لا توجد كتابة أنيقة، فكل الكتابات تبغي الفضح بدرجة أو بأخرى. ومن لا تحمل كتابته قدرا ما من الفضح، فإنه يعيد ترتيب الحروف وتصفيفها ليس أكثر، كما أنه يناور حول فعل الكتابة بدون تقديم كتابة حقيقية جدية، كتابة فاضحة!!

ويزداد الأمر خطورة حينما تنسحب الكتابة من شكلها الفردي الصحفي التعبيري، لتثير ذلك القدر من التوتر على صعيد الحياة اليومية بما يثير شهية الآخرين من أجل الكتابة والرد والتعبير. أو بشكل أكثر تحديدا، من أجل إعادة تفسير الفضح، سواء من خلال الموافقة عليه أو الاختلاف معه.

كيف تدور المعارك الصحفية؟ وما هي الآليات المختلفة التي يستخدمها أطراف الحوار في معاركهم الصحفية؟ وهل تنطوي تلك المعارك على قضايا فاضحة حقيقية، أم أنها تعبر عن مصالح خاصة ضيقة، وتنفذ أجندات أخرى؟
الواقع أن وطننا العربي ينطوي بلا شك على العديد من الكاتبات والكتاب الشرفاء. من هنا فإن الكثير من الكتابات في عالمنا العربي، حتى في ظل حالة الضعف العربي غير المسبوقة، تؤكد على أن هذا الوطن مازال مليئا بالعديد من الأقلام الشريفة، أصحاب القضايا الحقيقية. هؤلاء الكتاب مهمومون في النهاية بقضايا الوطن والأمة والخوف من المستقبل. صحيح أن الكثيرين يدفعون ثمنا غاليا من أجل كتاباتهم، سواء بالعزل المادي أو المعنوي، لكنهم في النهاية يحملون ذلك الرضا الذاتي الذي لا يستطيع أن يستشعره الكتاب الآخرون، كما يستحقون ذلك الاحترام والتقدير الذي يكنه البعض لهم.

لكن الأمر الأكثر سوءا لا يكمن في وجود المحترمين والشرفاء، لكنه يكمن في هؤلاء الذين يعز عليهم وجود القادرين على الفضح بجرة قلم وبوضوح بالغ وبأيديولوجية محددة. فوجود هذه النوعية من الكتاب الشرفاء تؤرق النوعية الأخرى من الكتاب غير الشرفاء أو أنصاف الشرفاء أو أرباع الشرفاء إذا كان من الممكن تجزئة الشرف والتعامل معه بالقطعة مثله مثل السلع المادية. من هنا تبرز آليات الكتابة المناوئة التي تريد أن تشتبك بطرائقها الخاصة ووسائلها غير الواضحة أو الباهتة، أو بشكل أكثر تحديدا وسائلها المتواطئة على المستويين الذاتي والمجتمعي.

ومنذ بداية القرن العشرين فإن عالمنا العربي قد شهد العديد من تلك المعارك الصحفية التي دافع من خلالها البعض عن قضايا حقيقية بينما اشتبك البعض الآخر من أجل الذات والدفاع عن قضايا بالغة الشخصية بل بالغة الغرابة في أحيان كثيرة. ومن خلال تتبع العديد من المعارك الصحفية التي حدثت بشكل خاص بين الأدباء والنقاد وبعض المفكرين يمكن تحديد مجموعة من الآليات يلجأ إليها البعض في معاركهم الصحفية المختلفة.

أول هذه الآليات هو "آلية التشتيت"، والمقصود بها الخروج عن هدف النقاش. فإذا كانت القضية الأساسية التي يتناولها أحد الأطراف تتعلق بواقع السلطة في العالم العربي فإنه يمكن الخروج عن ذلك إلى تناول قضايا فرعية أخرى كثيرة مثل سياسات التنمية والخصخصة ونظريات الحكم في الإسلام وواقع الأقليات ودول المشرق العربي ودور الخليج الفاعل... إلخ من الموضوعات والقضايا التي تجعل القارئ مغلوبا على أمره لا يدري أين يبدأ الموضوع وأين ينتهي. ميزة آلية التشتيت أنها لا توقع في مشاكل مع السلطة، فغالبا ما يكتب هذا النوع من الكتاب وعينه على إرضاء معظم، إن لم يكن كل الأطراف، بما فيها السلطة. كما أن أحدا لن يستطيع أن يدينه بشيء، فمن خلال عملية التشتيت، يتوه الجميع معه، ولا يستطيعون أن يقبضوا على شيء محدد مما كتبه.

تأتي بعد ذلك "آلية التسخين"، والمقصود بها نقل الحوار من مستواه الهادئ الرصين إلى مستواه الساخن الأقرب للردح الإعلامي. وهى آلية لا تنفصل عن سابقتها، فحينما يضيع القصد من الحوار، وحينما تتلاشي الحدود بين الموضوعات، تتحول الكتابة إلى فعل دفاعي عن الذات، وتشحذ الأفكار من أجل مهاجمة الآخرين والنيل منهم. ووفقا لسياسة الإمساك بالعصي من المنتصف لا يجب أن يكون التسخين بالغا وإلا أحرق الكاتب نفسه. فمن الضروري أن تتنوع درجات السخونة وفقا لرد فعل الطرف الآخر، وليس بالطبع وفقا لطبيعة القضايا المتناولة ومدى أهميتها.

لا تقتصر المعارك الصحفية في الغالب على طرفين محددين، فغالبا ما تجذب تلك المعارك الكثير من الأطراف الأخرى التي لن تختلف في قليل أو كثير عن أنماط الكتاب السالف ذكرهم. فالبعض تجذبه أهمية القضية والبعض الآخر تجذبه الرغبة في الظهور والتعبير عن مصالحه الذاتية أو التعبير عن أجندات أخرى خفية. هنا تبرز الآلية الثالثة المعنية "بالاستقطاب". وتتمثل هذه الآلية في الرغبة في استقطاب الكثير من المشاركين ضمن معية الكاتب، الأمر الذي يجعله يبدو في وضعية جيدة أمام جمهور القراء، فالمسألة كلها رهن بانطباعات القراء أكثر منها رهن بالقيام بدور وطني حقيقي.

ولأن المعارك الصحفية تنتقل برمتها من نطاق التناول الموضوعي لقضية أو جملة قضايا بعينها إلى نطاق المنازلة الشخصية فإن المناوشة تنتهي "بآلية التجهيل" التي تعني في النهاية تجاهل أحد الأطراف للطرف الآخر الرئيس في المناوشة، وتناول الآخرين العابرين على مائدة النقاش. وتمثل هذه الآلية قمة التدهور الذي يكشف عن خيبة التورط في المعارك الصحفية التي يقدم عليها البعض بدون أن يكون لديه التوجه الحقيقي والواضح لمناقشة قضايا الوطن والأمة. اللهم ابعد عنا شرور المعارك الصحفية، وجنبنا استخدام تلك الآليات المتواطئة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى