الجمعة ٢٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨
بقلم سليمان عبدالعظيم

تجسير الفجوة بين المثقفين!!

في الثمانينات من القرن الماضي أطلق أستاذ الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية بالقاهرة سعد الدين إبراهيم مقولته الشهيرة الخاصة بتجسير الفجوة بين المثقف والأمير. وهدف إبراهيم من وراء تلك المقولة إلى وضع إطار توضيحي للكيفية التي يتم بها العمل بين المثقف والأمير، أو بمعنى أكثر دقة بين المثقف والسلطة في عالمنا العربي. لقد كان الأمل يداعب الكثيرين في الثمانينات بنهاية عصر الدولة الشمولية في عالمنا العربي معززا بتأثيرات التحولات النفطية والتوسع الأميركي في المنطقة.
ولعل حالة الاسترخاء التي صاحبت العالم العربي في تلك الفترة هي ما دفعت إبراهيم لتصور إمكانية تجسير الفجوة بين المثقف والسلطة. وهو الأمر الذي ثبت خطأه بدرجة كبيرة سواء على مستوى الواقع الفعلي أو على مستوى ما واجهه إبراهيم ذاته فيما بعد من قبل السلطات المصرية. وهو ما أوصله إلى السجن ومواجهة حملة التشهير الرسمية الواسعة النطاق ضده، بغض النظر عما يتحمله هو من مسئولية في هذا السياق، وبغض النظر عن مواقفه الفكرية وممارساته الفعلية.
لا يعني ما سبق ضرورة المواجهة بين المثقف والسلطة في عالمنا العربي، بل إن الأفضل التعامل السلمي فيما بينهما من أجل الصالح العام؛ من أجل الوطن. لكن هذا التصور لا ينسجم مع واقع الحال في عالمنا العربي الأقرب لحالة الوصاية والهيمنة من قبل السلطة على المثقفين. فما من منطقة في عالمنا العربي إلا ويدفع المثقفون فيها أثمانا غالية من حرياتهم جراء تعبيرهم عن أفكارهم ومعتقداتهم.
من هنا فإن المطلوب خلق مساحة كافية يبتعد من خلالها المثقف الحقيقي عن السلطة إلا فيما يراه صالحا للمجتمع، وما يحدده هو بمحض إرادته واختياره. وبالطبع لن يستطيع المثقف مواجهة السلطة كفرد أعزل بقدر ما يمكنه مواجهتها من خلال تكتل عريض يجمع المثقفين على الصالح العام، وعلى القضايا الهامة التي يرون بأولويتها بالنسبة للتنمية وحقوق الإنسان في مجتمعاتهم.
وإذا كان هذا التصور يبدو بسيطا على المستوى النظري فإن واقع الحال يبرز الصعوبات الهائلة التي تقف أمام تحقيقه. فالمثقفون مثلهم مثل أي جماعة اجتماعية أخرى تصيبهم عناصر الفرقة والتشظي التي تضعفهم وتشتت شملهم. وهناك العديد من الأسباب والملابسات التي تؤثر على عمل المثقفين في العالم العربي كجماعة واحدة متباينة الأفكار والتوجهات لكنها شبه متفقة على أهداف مجتمعية عامة. وهو ما يستدعي مناقشة تلك الأسباب كمقدمة من أجل تجسير تلك الفجوات التي تتسع يوما بعد يوم بين المثقفين سواء على المستوى الإقليمي العربي، أو على المستوى القطري الواحد.
ومن أهم أسباب الفرقة بين المثقفين وتشظيهم أنهم ينطوون على بنيات استبدادية مثلهم في ذلك مثل السلطات السياسية التي يدعون لتغييرها ليل نهار. ورغم أن البعض يرى بأن المثقف جزء لا يتجزأ من بيئته التي ينتمي إليها، وهو تجلي من تجلياتها، فإن المثقف بطبيعته التقدمية وميوله المفارقة من الضروري أن يكون ديمقراطيا متسامحا ومخالفا للمواضعات السياسية والاجتماعية المستبدة.
وفي الحقيقة فإن المثقف العربي يتسم بدرجة كبيرة من الاستبداد والتعالي والغطرسة على غيره سواء أكانوا من المثقفين الآخرين أو من المواطنين العاديين. وهو الأمر الذي يخلق العديد من السجالات والمناوشات ناهيك عن تلك المعارك المندلعة بين فترة وأخرى والتي تمتلئ بها العديد من الصحف المحترمة أو غير المحترمة على السواء.
كما أن المثقف يتسم بالاستبداد من خلال هيمنته على المواقع الثقافية المختلفة المنوط بها التغيير والتقدم. وكم من معارك اندلعت هنا وهناك حول هيمنة مثقف ما على إحدى المؤسسات ورغبته القاطعة في نفى من حوله من مثقفين ومفكرين. ويمكن أن نرى ذلك بشكل خاص في المؤسسات الثقافية الرسمية في مختلف فضاءات المجتمع العربي.
لا يقف الأمر عند هذا الحد فالاستبداد ينتشر في جامعاتنا بدرجة مخيفة حيث هيمنة الأساتذة، غالبا من كبار السن على مقدرات العملية التعليمية والترقيات، بل وفي الكثير من الأحيان فرملة عملية التطوير التعليمي من أجل بقاء سياسات متخلفة عفا عليها الزمن لكنها تخدم مصالح البعض دون البعض الآخر.
إن الاستبداد هنا تعبير خالص عن الحفاظ على المصالح التي يحصل عليها البعض خصوصا في البلدان العربية التي تعاني من أزمات اقتصادية خانقة. ففي هذا النوع من البلدان يصبح الارتباط بالدولة والتعبير عن سياساتها والترويج لها هو الباب الملكي من أجل الحصول على العديد من الامتيازات التي لا يحصل عليها الآخرون. من هنا يمكن تفسير ذلك الاستبداد والاستئساد من أجل البقاء في كنف الدولة ورعايتها.
وهذا النوع من المثقفين المتعارف على تسميتهم بمثقفي السلطة، يخلق بالتبعية المثقف المعادي أو المواجه أو الفاضح للسلطة وممارساتها. وكم من مثقفين ينتمون لهذا النوع الأخير وجدوا أنفسهم معارضين للسلطات السياسية الحاكمة في بلدانهم بالصدفة البحتة أو من خلال معارضتهم لمثقفي السلطة. واللافت للنظر هنا وجود تنوع هائل بين كلا النوعين؛ فمن الصعوبة بمكان، بل ومن الظلم أيضا، أن يوضع الجميع في سلة واحدة تصنفهم إلى مثقفين للسلطة ومثقفين مناوئين لها. لكن الأمر الخطير هنا أن هذا الانقسام بالنظر للموقف من السلطة هو العامل الأكثر تأثيرا في تفكك وتشظي الجماعة المثقفة في عالمنا العربي، وهو ما يحتاج إلى المزيد من التناول حول الآليات المختلفة التي تشكل كلا النوعين، والتصنيفات المختلفة التي تنتمي لكلا منهما.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى