الخميس ٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

النافذة السابعة

هناك، في أعلى بنايةٍ أدار عنها الضوءُ وجهَه، من إسمنتٍ رماديٍّ هرِمٍ تتشقّق فيه الذاكرةُ كخدودٍ غابت عنها المرآة، عند طرف المدينة الذي لا يمرّ به أحدٌ إلّا بالخطأ، عاش سالم جزءًا من حياته.

عاملُ تنظيفٍ يشبه الجدارَ الذي يسنده كلَّ مساء؛ ساكنٌ، صبورٌ، يشيخُ بصمتٍ دون أن يطلب إذنًا من الزمن.

من غرفةٍ ضيّقةٍ، سقفُها منخفضٌ كأنه يراقبُ أنفاسَه، لكن نافذتَها تُطلّ على عمارةٍ فخمةٍ تتلألأ كبرجٍ من ضوءٍ وسط ظلمةٍ أليفة.

كان يقول، وهو يشعلُ سيجارته الرخيصة:

«من نافذتي أرى الدنيا مرتّبةً أكثر مما هي عليه في الواقع.»

كلَّ ليلةٍ، بعد يومٍ ملوّثٍ بالغبار والضجيج، يجلسُ على كرسيّه الحديدي الصدئ، يطفئُ المصباحَ، ويبدأ طقسَه السرّي: مراقبةَ النوافذ المقابلة.

لم يكن يفعل ذلك بدافعِ الفضول، بل بحافزٍ أعمق؛ حاجةٍ غامضةٍ إلى أن يفهمَ الحياةَ من بعيد، دون أن يتلوّث بقربها.
دوّن في دفترٍ صغيرٍ قرب علبةِ الشاي الباردة:

«أحيا في الهامش، لكنّي أرى المركزَ بوضوحٍ لا يُحتمل.»

في الشقّة الأولى، تجلسُ امرأةٌ عجوز، شعرُها أبيضُ كالدخان، وعيناها معلّقتان في نقطةٍ لا تُرى.

لا تلفاز، لا صوت، لا حركة.

يخالها تمثالًا نُسيَ في موضعه، وفي ليالٍ أخرى يراها تمسحُ دمعةً لا تسقط.

كتب سالم:

«تنتظر ما تأخّر أكثر مما ينبغي... وربّما لا تنتظر إلّا نفسها حين تعودُ متأخّرةً عن عمرها الذي تجاوز الستين.»

في الشقّة الثانية، رجلٌ أنيقٌ يطلّقُ العالم عبر الهاتف.

صراخُه يملأ الغرفة، والستائرُ تُغلق بعنفٍ كأنها تردّ الشتائم.

لكن ذات مساء، حين انطفأت الأنوار، رآه سالم جالسًا على الأرض، يأكلُ بقايا طعامٍ بيده، دون ضوءٍ أو كرامة.
كتب في دفتره:

«الأغنياء أيضًا يتخفّون، لكنهم يختبئون داخل أنفسهم.»

في الشقّة الثالثة، طفلةٌ صغيرة، لا عمرَ لها سوى خيالها.

ترسمُ على الزجاجِ دوائرَ من بخارِ أنفاسها، وتبتسمُ لشيءٍ لا يُرى.

حين يشتدّ البرد، تكتبُ كلمةَ "ماما"، ثم تمسحُها بسرعةٍ كأنها تخونُ سرًّا قديمًا.

كتب سالم:

«الأطفال يعرفون كيف يُخفون وجعَهم بطريقةٍ تشبه اللعب.»

في الشقّة الرابعة، زوجان يأكلان بصمتٍ ثقيلٍ كلَّ مساء.

لا كلمة، لا نظرة، لا ارتعاشةَ شعور.

لكن في إحدى الليالي، رآه يمدّ يده خلسةً تحت المائدة، يلمسُ أصابعها لثانيةٍ، ثم يسحبُها بخجلٍ كمن يسرقُ لحظةً من الموت.

كتب سالم مبتسمًا:

«الحبّ لا يموت، فقط يهاجرُ إلى الصمتِ حين يشيخُ الكلام.»

في الشقّة الخامسة، شابٌّ يكتبُ طوال الليل.

يُشعلُ سيجارةً بعد أخرى، يحدّقُ في الورق، يصرخُ أحيانًا، ثم يضحكُ وحيدًا كمن يفاوضُ ظلاله.

لم يعرف سالم ما يكتب، لكنّه لاحظ أن الرفوفَ من حوله خاليةٌ من الكتب.

كتب سالم:

«الكتابة لا تحتاج إلى كتب، بل إلى غيابٍ يُشبه الحضور.»

في الشقّة السادسة، نافذةُ ظلامٍ مطلق.

لا ضوء، لا ظلّ، لا أثر.

ومع ذلك، كان يشعرُ سالم أنّ فيها من الحياة ما يفوقُ الباقين.

كتب:

«أخطرُ الغرف هي التي لا تقول شيئًا.»

ثمّ هناك النافذةُ السابعة — تلك التي لا ينبغي أن تكون.

في زاوية الطابق الثالث، تظهرُ فقط حين يكتملُ الليلُ وتغيبُ الضوضاء.

ظلٌّ يتحرّكُ أحيانًا، موسيقى بعيدةٌ تتسلّلُ كأنها من زمنٍ لم يُكتب بعد.

كان يشعرُ أنّها لا تُرى بقدرِ ما تراه.

في ليلةٍ ماطرةٍ، جاءه صديقه حسّان، زميلُه القديم في العمل.

يحملُ كيسَ خبزٍ ووجهًا يعرفُ التعبَ جيّدًا.

جلسَ قربه، نظرَ إلى النوافذ، وقال ساخرًا:

«ألم تملّ من التحديق في حياة الآخرين؟ كلّ هذه النوافذ، ولا واحدة تفتحُ على نفسك!»

ابتسمَ سالم بخفوتٍ وأجاب:

«أنا لا أراهم... أنا أرى ما تبقّى منّي فيهم.»

قال حسّان، وهو يعبثُ بسيجارته:

«تخيفني يا سالم. أحيانًا أظنّك صرتَ شبحًا يعيشُ في الضوء المنعكس من تلك العمارة.»

فأجابه سالم بهدوءٍ غامض:
«ربّما... وربّما صرتُ ظلًّا يبحثُ عن جسده في النافذة السابعة.»

ضحكَ حسّان بارتباكٍ:
«أي نافذة؟ هناك ستّ فقط يا رجل!»

لم يُجب سالم.
كانت عيناه معلّقتين في النقطة نفسها، حيث تتدلّى الموسيقى كخيطٍ من الليل.

في الفجر، سمع حسّان صرخةً تأتي من جهةِ البناية القديمة.
ركضَ. وجد البابَ مفتوحًا والريحَ تعصفُ في الممرّ، والغرفةَ خالية.
الكرسيَّ يهتزّ قرب النافذة، والدفترَ مفتوحًا على الجملة الأخيرة:
«كلُّ النوافذ تفتحُ على الوحدة... لكن واحدةً فقط ترى الحقيقة.»

في العمارة المقابلة، كان المطرُ يضربُ الزجاج، والنافذةُ السابعةُ تلمعُ للحظةٍ واحدةٍ قبل أن تختفي.
قال حسّان بصوتٍ مبحوحٍ لنفسه:
«ربّما لم يسقط، بل عبر.»

ومنذ تلك الليلة، كلّ من يسكنُ الغرفةَ يقولُ إنه يسمعُ موسيقى خافتةً تأتي من جهةٍ لا نوافذَ فيها،
كأنّ المدينةَ تُعيدُ سردَ الحكاية، وتُخفي نهايتَها في الجدارِ الذي ابتلعَ سالم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى