

بيت في الضباب
لم يكن يعرف متى بدأ يشعر أنّ جدران بيته تتحرّك في الليل. كأن الطوب المتهالك يئنّ مثل صدرٍ مثقل بالربو، وكأن السقف يشيخ معه في كل يوم، فيسقط منه غبار ناعم يغطي وجوه أطفاله وهم نيام. لم يكن ذلك بيتًا، بقدر ما كان قفصًا رماديًا يعتصر أنفاسه، ويتركه أسيرًا بين صمت جدران تعرف أكثر مما تقول.
كان يسمع شخير الفقر في كل زاوية. الفقر عنده لم يكن كلمة، بل كائن يتجول في البيت: ينام قرب المدفأة الباردة، يندس بين الأغطية الممزقة، يتسلل إلى الكتب المدرسية التي تصفر أوراقها قبل أن تكمل عامًا. أطفاله الثلاثة كانوا يعرفون هذا الكائن بالاسم، لكنهم لا يذكرونه.
سما، بضحكتها التي تتحدّى الظلام، كانت تلوّن جدارًا متصدعًا بقلم مكسور، ترسم شمسًا لا تشرق، وزهرة لا تذبل. كلما انكسرت قطعة طباشير أو انمحى خط على الجدار، أعادت الرسم وكأنها تقاوم موتًا صغيرًا.
ماهر، الأكبر، ورث من أبيه قلق العيون الساهرة. كان يراقب النافذة المفتوحة كأنها باب للهروب، يتساءل هل هناك مكان أبعد من هذا البؤس، أم أن العالم كلّه متشابه؟
سلام، الأصغر، كان يملأ البيت بأسئلة تُثقل الصمت:
ـ لماذا بيتنا مظلم بينما بيوت الآخرين مضاءة؟
ـ لماذا الخبز عندنا يابس، وعندهم طري؟
ـ لماذا أبي يعود متعبًا دائمًا؟
الأب لم يكن يعرف الإجابة. كل ما يملكه كفّان مشققتان، وذاكرة مزدحمة بطرق مسدودة. كان يشعر أنّ حياته كلها سلسلة من الأبواب المغلقة، وأنّ كل ما فعله لم يفتح سوى نوافذ على العجز.
الجيران كانوا يمرّون أمامه وكأنهم يعبرون من حياةٍ إلى أخرى: البعض يرمي ابتسامةً مشفقة، البعض يشيح بوجهه ليتجنّب العتاب الصامت، أما الأغلبية فتترك خلفها كلمات جارحة، تطعنه أكثر مما يطعنه الجوع: "عاطل"، "ضعيف"، "مكسور". كان يعرف أنّ صورته في أذهانهم ليست سوى رجلٍ بائسٍ عالق في قاع الحياة.
جرّب كل شيء: أعمال يومية تافهة، ووعود أصحاب المال التي لا تتحقق، وحتى طرقًا رمادية تقود إلى الحرام. لكنه لم يمدّ رجله نحوها. كان يعرف أن الخط الفاصل بين الخبز والعار رقيق جدًا، لكنه آثر أن يجوع على أن ينكسر أمام نفسه. ضميره كان أثقل من جوعه، ورغم قسوته، لم يسمح لفقره أن يجرّه إلى الظلّ المظلم.
ليلة ما، وهو عائد مثقلاً من بحث عقيم عن عمل، داهمه ضباب كثيف لم يعهده من قبل. المدينة التي يعرفها بدت غريبة، الشوارع تحولت إلى ممرات شبحية، والأحجار القديمة كأنها وجوه لا يتعرف عليها. مشى طويلاً، يلتف الضباب حول ساقيه كأفاعٍ بيضاء، حتى وجد نفسه أمام باب خشبي لم يره قط، بلا لافتة ولا رقم. الباب كان مائلًا، لكنه يتسرب منه نور غريب.
تردّد… ثم طرقه.
انفتح الباب على فراغٍ مذهل: لا مقاعد، لا أثاث، فقط هواء يلمع كالماء في ضوء القمر. سمع صوتًا يملأ المكان بلا جهة:
ـ ادخل… لقد انتظرتك طويلاً.
دخل، فتبدّل كل شيء. فجأة شعر أنّ جسده أصبح خفيفًا، كأنّ حمل السنين انسحب منه دفعة واحدة. لم يعد يثقل بخيباته ولا بأرق أبنائه. طبقة الطين التي علقت بروحه تساقطت كما يتساقط الغبار عن نافذة نُسيت زمنًا طويلاً.
وهناك، في ذلك الفراغ المضيء، رأى بيته يتحول: الجدران صارت بيضاء، ناصعة كالحلم.
السقف قوي لا يتساقط منه شيء.
الأطفال يضحكون بحرية لم يعرفها من قبل.
رائحة الخبز الطازج تملأ المكان، حتى أنه شعر بالشبع لأول مرة منذ سنوات.
الجيران مرّوا من حوله، لكنهم هذه المرّة حيّوه باحترام، بابتسامات صافية لا يشوبها شفقة.
لم يفهم… هل هو حلم؟ هل هذه مكافأة على صبره، أم مجرّد وهم يصنعه العقل قبل الاستسلام الأخير؟ تساءل: أهو الموت الذي يسمّونه "الحياة الثانية"، أم حياة أخرى تليق به بعد أن ضاع عمره في الأولى؟
كل ما عرفه أنه لم يعد يلهث وراء لقمة مذلة. لم يعد يركض خلف أبواب موصدة. وجد نفسه في بيت جديد، حيّ جديد، مستوى معيشي يوازي ما كان يتمناه دومًا، لكنه لم ينله في الحياة التي رحل عنها.
في الصباح التالي، عثر الجيران على جسده قرب الطريق الموحل، ممددًا بملامح هادئة، كأنّه نام أخيرًا بعد سهر طويل. كانوا يقولون إن وجهه يشبه وجه من وجد ضالته.
سما لم تفهم لماذا يبتسم أبوها وهو ميت.
ماهر وسلام لم يجرؤا على السؤال، كأن الإجابة ستفتح جرحًا أكبر من طاقتهم.
أما البيت المتهرئ، فقد ظلّ على حاله: جدرانه المتصدعة، سقفه المهترئ، رائحته الرطبة. لكن الجيران، أقسموا أنّهم رأوا في تلك الليلة نورًا غريبًا يتسرب من نوافذه، نورًا لم يُعرف من أين جاء، وظلّوا يتحدثون عنه لسنوات… كأنّ الرجل الذي رحل ترك وراءه علامة تقول إنّ الفقر قد يسرق كل شيء، إلا الحلم.