الأحد ١٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

حي الزهور «الجزء الأول»

تعيش سلوى مع أمها الأرملة المريضة في حي الزهور، في مجتمع ضيق ومحافظ، ولا يعرف سكانه عن العالم الأكبر إلا ما يرونه في شاشة التلفاز وما يسمعونه من قصص الأسلاف، فحدود عالمهم هي أطراف هذا الحي المغمور، وهذا ما يفسر البراءة التي تحملها ملامح وجوههم، والتي قد تبدو بلاهة في بعض الأحيان.

حصلت سلوى على الشهادة الإعدادية ثم اضطرت إلى ترك مقاعد الدراسة للعمل، ثم تزوجت من ذلك الوغد رضوان الذي كسر قلبها وطلقها. لم تنصف الحياة فتاتي الجميلة وصبت عليها كل ألوان الشقاء، اليتم والفقر والطلاق والخوف والمرض، وفوق ذلك كله، نظرات الامتعاض والاشمئزاز من سكان الحي الذين يرون كل امرأة مطلقة عاهرةً لا تعرف في حياتها إلا الجنس!

ولكنني -وفق وصفها- العوض الجميل، وإن ظلمتها الحياة من قبل فقد أنصفتها الآن، بل منذ لقائنا الأول قبل عامين، حين كانت تبتاع الخضروات من دكان العجوز الخرف يوسف الذي طردها خوفاً على سمعته من مجيء تلك "المطلقة" كل يوم إلى الدكان، فألسنة سكان الحي سليطة لا تعرف الرحمة.

لا أنسى ذلك اليوم الذي اجتمع فيه سكان الحي أمام الدكان وهم يشاهدون ظلماً وقع عليها وهم بين مستهزئ وصامت.
شعرت بغضب جنوني، تمالكت نفسي ثم اخترقت الصفوف واقتربت منهما، نظرت لأول مرة إلى وجهها البريء فوقع في قلبي حبها، وكما اعتدت أن أفعل في كل مرة تثور فيها مشاعري، أستخدم السخرية سلاحاً لإخفاء هذه الانفعالات.

نظرت إلى وجوه سكان الحي ثم توجهت إلى صاحب الدكان وقلت له بهدوء: "أتخشى على ما لا تملكه أيها الرجل؟ تسرق المعونات وتغش في الكيل، وتضع الخضروات الطازجة فوق الرديء منها، بئس التاجر والجار".

ثم رفعت صندوق الطماطم ونظرت إليه من الأسفل فقال صاحب الدكان بصوت مبحوح: "ماذا تصنع أيها الفتى؟" فأجبته ساخراً: "أبحث عن سمعتك الطيبة وسيرتك الحسنة فما وجدت إلا الطماطم الرديئة أسفل هذا الصندوق"

انفجر الحضور ضاحكين، ثم توجهت إلى سلوى وقلت لها بلطف: "سيدتي، أرجو ألا تأتي إلى هذا الدكان" ثم صمتت للحظات وأكملت بابتسامة عريضة: "حرصاً على سمعتك".

رميت في وجه صاحب الدكان ورقة من فئة المئة ليرة ثم حملت الأكياس التي ملئتها سلوى بالخضار ورافقتها إلى المنزل.
وكانت ابتسامتها الساحرة وكلمات الشكر والامتنان ختام ذلك اليوم الذي أشعلت فيه سلوى شرارة الحب في قلبي فأصبحت ناراً عظيمة لا تنطفئ أبداً.

(***)

صدق هاشم بن عبد مناف في قوله: "رامي العشيرة يصيبه سهمه"، لقد أصبحت منبوذاً في مجتمع الحي، إذ شعر جميع سكان الحي الذين شهدوا ذلك الموقف بأنني لن أتواني عن مجابهة أي شخص يتعرض لسلوى بسوء، وازداد الطين بلة مع زياراتي المتكررة إلى منزل سلوى لجلب الخضروات ومرافقتي لها كل يوم ذهاباً وإياباً بين منزلها وورشة الخياطة التي تعمل بها.

وكثرت الأقاويل عنا، فبعضهم يقول بأنني مراهق أطمع في ممارسة الجنس مع تلك المطلقة، وآخرون يقولون بأنها تحيك شباكها للإيقاع بي، وقد نال منا جميع سكان الحي، حتى رفاقي الذين اعتقدوا بأنني أحببتها لأنها أول فتاة في حياتي!
وكان لعائلتي شرف المشاركة مع مجتمع الحي، إذ حصل جدال عنيف بيني وبين والدي -رحمه الله- وكانت سلوى معصيتي الأولى والأخيرة له، وكانت وصية أبي ألا نخرج عن الأعراف وأن نفعل ما يفعله الناس، فأنهيت النقاش بسؤال صريح لأبي أجبره على الانسحاب، فقلت له: "لو تزوجت أختي الصغيرة وطلقها زوجها فهل ستطعن في سمعتها مع القوم كما فعلوا مع سلوى؟".

لقد أعلنت حرباً مفتوحة مع مجتمع الحي، ولم آبه لما يقولون، امتلكت من القوة ما يكفي لمواجهة العالم بأسره، وقد حذت سلوى حذوي في هذه الحرب، ولكن، هل ستقوى على الاستمرار فيها؟ هذا ما كان يخيفني ويقض مضجعي، فلا ينتصر المرء على مجتمعه إلا بعد أن يؤذونه إيذاءً شديداً ويلقى منهم ما يكره!

(***)

اضطربت علاقاتي مع سكان الحي وخاصة رفاقي، إذ اعتزلتهم بعد تطفلهم على حياتي الشخصية ومحاولاتهم في ممارسة دور الوصيّ، فكيف أقبل منهم ما رفضته ممن هو خير منهم جميعاً، أبي!

ألمحهم كل مساء أثناء عودتنا أنا وسلوى من ورشة الخياطة، إذ اعتدت الذهاب إلى الورشة قبل انصرافها بساعة، لنعود سوية إلى الحي.

ثم تناقلت ألسنة أهل الحي خبر انقطاعي عن الرفاق ووصفوني بالخائن إذ تخليت عنهم لأجل امرأة مطلقة. كما تحدثوا عنها بسوء فقالوا بأنها تفرق بين المرء وأحبابه، فازداد بغضهم لها.

وفي يوم من الأيام، أثناء عودتنا مساء إلى الحيّ، اعترضنا علاء ابن الحاج شوقي ورفاقه، إنهم حثالة الحيّ، يتعاطون الحشيش ويفتعلون المشاكل مع أهل الحيّ. اقترب علاء مني وأشار إلى رفاقي وقال بنبرة ساخرة: "اذهب إليهم أيها الخائن ونحن سنتكفل بتوصيل السيدة سلوى إلى منزلها".

وبدون تفكير، صفعته صفعة قوية فوقع أرضاً، فهاجمني رفاقه وضربوني ضرباً مبرحاً.

توقف الضرب فجأة ورفعت رأسي فوجدت رفاقي قد انقضوا عليهم وضربوهم، فما كان منهم إلا أن هربوا وهم يشتمونني ويتوعدون لي في قادم الأيام.

اقترب مني نديم ومد يده فأمسكتها ووقفت، نظرت إلى وجهه بصمت مطبق، فقال لي بهدوء: "خذها إلى المنزل وعد إلينا على الفور".

(***)

واصلت المسير مع سلوى بخطوات ثقيلة كما يعود كل مهزوم إلى داره، وكأنني أحمل هموم الدنيا على ظهري. انتفض جسدي عندما شعرت بيدها الصغيرة تمسك يدي التي ما لمست يد أنثى قط، التفتت إليها فوجدتها تنظر إليّ بابتسامتها الصافية وقالت لي بامتنان: "عوضي الجميل، لا حرمني الله منك" أومأت برأسي مبتسماً ثم واصلنا المسير حتى وصلنا إلى باب منزلها.

وقفت أمام الباب منتظراً دخولها إلى المنزل لأغادر، قالت لي سلوى: "طابت ليلتك" وفتحت الباب وهمت بالدخول، ثم استدارت فجأة نحوي وطبعت قبلة على خدي ودخلت بسرعة وأغلقت الباب.

شعرت بالثمالة بعد هذه القبلة، وكأني شربت عشر كؤوس من النبيذ الفاخر. لا زلت أشعر بعطرها يفوح من خدي الذي التصق بخدها. غالبت هذه المشاعر وتوجهت مسرعاً حيث ينتظرني الرفاق.

(***)

سأعود إلى الرفاق، ولكن، ماذا سأصنع؟ لا أريد حديث العاذلين، فقد سئمت تلك الأحاديث!

حاولت ألا أستغرق أكثر في التفكير، وتقدمت نحو رفاقي الذين فرحوا بعودتي وكأن القطيعة ما كانت! وشرعوا في إلقاء الدعابات السمجة على الحادثة.

أتاكم عنترة، قفوا إجلالاً وتعظيماً، أهلاً بفارس حي الزهور.

يخبرك من شهد الوقيعة أنني.. أغشى الوغى وأعف عند المغنم.

أثني عليّ بما علمت فإنني .. سمح مخالقتي إذا لم أظلم.

اقتربت منهم ضاحكاً، ووقفت أمامهم، تأملوا وجهي للحظات ثم دخلوا في نوبة ضحك جماعية.

وقبل أن أسألهم عما يضحكهم، اقترب مني نديم وأخرج منديلاً من جيبه ليمسح طلاء الشفاه الذي ظهر على خدي من أثر القبلة الأولى.

ثم وضع يده على كتفي وقال بلطف: "لن نُسمعك ما تكره، وكل ما نرجوه ألا تطيع سلوى في أمرنا، فنحن رفاقك ولا نضمر لك شراً، ولن يمسك أحد بسوء وفينا عرق ينبض! هل وعيت قولي أيها الشقي؟ أم أن القبلة قد أخذت بمجامع عقلك؟"
أزحت يده برفق ثم جلست إلى جانب سليم وقلت: "أيها الرفاق، لا يضركم وجود سلوى في حياتي ولا ينفعكم رحيلها، المسألة بسيطة، أحبها وأرغب بالزواج منها، فما شأنكم؟ عجباً لأمر هذا الحي! لو وجدتموني على قارعة هذا الطريق أصارع الموت لما رف لكم جفن، ولكنكم تتطفلون على أدق التفاصيل في حياتي الشخصية. هل وجدتم مني تطفلاً في حياتكم الشخصية؟ مالكم كيف تحكمون؟"

تنهد عمار ثم قال: "هذا صحيح، ولكننا نخشى عليك أن تصبح منبوذاً في مجتمع الحي، ولا طاقة لك بهم إن اجتمعوا عليك!"

التفتت إلى عمار وقلت له ببرود: "سحقاً لهذه المجتمعات التي تنشغل بصغائر الأمور عن عظائمها، فليذهبوا جميعاً إلى الجحيم، ولو اجتمعت عليّ جنود الأرض من الإنس والجن فلن أفارق سلوى، الموت دون هذا الأمر!".

وقفت ونفضت الغبار عن ثيابي ثم قلت بحزم: "أرجو أن يكون هذا حديثنا الأخير عن سلوى، دعوا هذا الأمر، وأنا صاحبكم الذي عرفتموه في الطفولة، في السراء والضراء. نلتقي غداً إن شاء الله".

ثم عدت إلى المنزل على الفور.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى