الأربعاء ٢٠ آب (أغسطس) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

رسّامُ الحربِ

في المدينةِ التي تشهقُ رمادًا، كانت النوافذُ بلا عيون، والجدرانُ بلا قلوب، والشوارعُ لا تعرفُ وقعَ الخطى.

مرّ ياسين كأنّه أثرٌ يمشي، أو ذاكرةٌ تبحثُ عن جسدٍ يُعيدُها إلى الحياة.
يثقلُ جسدَه حقيبةٌ من قماش، كأنّها قلبُه.

لم يكن يبحثُ عن الأمل.
الأملُ كان يُطلُّ من عيونِ الوجوهِ التي يرسمُها.

لم يَعُد يحتاجُ القماش. القماشُ شَحَّ تمامًا.
صار يرسمُ على ما تبقّى من ملامحِ المدينة:
جدارٌ نصفُه قُصِف، خوذةٌ تعفّنَ فيها الحديد، حاويةُ ماءٍ متآكلة.
يرسمُ لا لكي يُعجِب، بل ليُوقِظ.

وجوهٌ بلا أسماء، بلا تواريخ، بلا بطاقاتِ هُويّة.
وجوهٌ تُشبهنا… في الصمت، في الخوف، في الغضب، في الحبّ.
وجوهٌ لا تصرخ، لكنها تهمسُ للمارّين:
"تذكّرونا، كي لا نموت مرّتَين."

الناسُ خرجوا من الملاجئ، ليس بحثًا عن الخبز، بل عن لوحةٍ تشهدُ أنّهم لا يزالون بشرًا.

قيل عنه: "شبح."
قيل: "ملاكٌ يرسمُ بالفحم."
قيل: "رجلٌ لا يريدُ أن ينجو، بل أن يُذكّرنا بما خسرناه ونحن نركضُ نحو النجاة."

في المساءِ، حينَ رسمَ وجهَ الجنديّ القاتل، لم يكن يُدين، بل كان يُعيدُ له إنسانيّتَه.
ذاك الجنديّ سقط، ليس برصاصة، بل بدمعة.
رأى نفسَه في الجدار، ولم يحتملِ المرآة.

ومع كلّ فجرٍ، كان ياسينُ يرسمُ.
كما لو أنّ الرسمَ صلاة، كما لو أنّ الحائطَ كنيسة، أو مسجد، أو قبر، أو رحمٌ جديد.
لكنّ الحكاية لا تكتملُ دون منطقِ الحرب.

ذات ليلة، وجدوه.
جالسًا على ركبتيه، أمامَ جدارٍ محروق، يرسمُ وجهَ طفلٍ بعينٍ لم تكتملْ بعد.

ولم يلتفت.
ولم يركض.
كأنّ الزمنَ تجمّدَ في يدِه.

قالوا:
"أنتَ الفوضى."
فأجاب دون أن يصرخ:
"أنتم النسيان… وأنا الذاكرة."

ثمّ وضعَ الفحمَ جانبًا، كما يضعُ المحاربُ سيفَه قبلَ الموت، وقال:
"اقتُلوني، لكنّ الوجوهَ ستبقى… أطولَ من أعماركم."

ثمّ صمت.
ثمّ سقط.
ثمّ بدأت المدينةُ تتنفّسُ من جديد.

في الصباحِ التالي، جدارٌ جديد…
يدٌ صغيرةٌ تمسكُ بفحم.
ثمّ أخرى.
ثمّ عشرون.

لم يكن الرسمُ تمرينًا على الفنّ، بل تمرينًا على النجاة.
على التذكّر.
على أن تكونَ إنسانًا، رغم كلّ ما يسرقُك منكَ.

ياسين، الذي دفنوه في ظلامِ الليل، خرجَ في النهار التالي من كلّ جدار.
في كلّ وجهٍ رسمه طفل، في كلّ ابتسامةٍ لا تزال تتشبّثُ بالحياة، في كلّ صرخةٍ مكتومةٍ قرّرت أن تُقال.
وصار الناسُ يقولون، لا، بل يُقسمون:

"ربما سُحقنا تحتَ دباباتِ الحرب… لكنّنا لم نسحقْ إنسانيّتنا."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى