الثلاثاء ٢٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

مدن

أستيقظُ
في مدينةٍ — ربما الحلم —
الهواءُ ثقيلٌ، يتسلّل بين الأرصفة،
كلُّ نافذةٍ تحرسُ سرًّا،
وكلُّ بابٍ يهمسُ بحكايةٍ لا تنتهي.

زقاقٌ يمتدُّ،
كأنَّه نهرٌ من وهمٍ خافت،
والضوءُ المتردّد بين الجدران
يتحدّثُ عن وجوهٍ مرّت،
ثمّ غابت،
ولم...
لم تعد.

أمشي — أبحث عن صدى الأمس —
فأجدني في ضحكةِ طفلٍ تتجاوزُ الزمان،
وفي دمعةِ امرأةٍ تنتظرُ من لا يعود.

مدينةٌ أخرى...
سماءٌ باردة،
أسواقٌ تصرخُ برائحةٍ لا يسمعها أحد،
قلوبٌ متعبة،
وأشياءُ تنتظرُ أسماءها الأولى.

القطارُ يمرّ — يحمل الأرواحَ بين المدن —
يتركُ خلفه ضحكاتٍ وصرخاتٍ
كأنّ الزمانَ كلَّه يسافرُ داخله،
ولا يعود.

الليلُ...
سطحُ بيتٍ متداعٍ،
نجومٌ تتساقطُ كحروفِ قصةٍ لم تُكتمل،
والقمرُ يبدّلُ وجهه كلَّ لحظة.
مدنٌ من الحلمِ والخيالِ — تنتمي إليَّ سرًّا —
شوارعُ خالية،
خطوةٌ تكتبُ قصيدةً لم تُكتب،
ونَفَسٌ يحملُ أسطورةً لم تُروَ بعد.

بائعُ ساعاتٍ توقّفت قبل أن يُولَد الزمن،
ورجلٌ يبيعُ مفاتيحَ صدئة،
وصوتُ موسيقى ينسابُ من جدارٍ بعيد،
والماضي يُغنّي لنا من خلفه.

مدينةٌ ثالثة...
ثلجٌ يغطي الأسطح،
والصمتُ يصرخُ في الشوارعِ الفارغة.
أثرُ أقدامٍ يمرّ، ثمّ يختفي،
كأنّ المدينةَ تمحو مَن عبروا،
وتبقي الهواءَ مليئًا بالذكريات.

عند الفراغ،
بركةٌ تتكلّم،
كلُّ تموّجٍ حكاية،
وكلُّ انعكاسٍ وجهٌ أعرفه،
رغم أنني لم أرَه من قبل.

مدينةُ الطفولة...
المطرُ يلعبُ معنا،
الأيامُ بلا نهاية،
السماءُ قريبةٌ كلوحِ ماءٍ صافٍ،
كنتُ أظنُّ أنّ كلَّ شيءٍ سيبقى،
لكنَّ المدنَ تتغيّر،
والناسُ يغادرون،
ويبقى الصمتُ شاهدًا.

الليلُ هنا مختلف،
يصعدُ من الأرض،
ينسابُ بين الأشجار،
يكتبُ على الحجارةِ أسماءً مجهولة،
ويخبرنا أنّنا عابرون،
لكنَّنا — في الوقت نفسه — باقون،
كأنّ الزمنَ يختبئُ في الظلال.

جسرٌ...
ونهرٌ يسيرُ بلا توقّف،
يحملُ المدنَ القديمة،
والحبَّ الذي لم يُعش،
والأحلامَ التي لم تُكمَل بعد.
كلُّ مدينةٍ مرآة،
وكلُّ إنسانٍ ظلُّ مدينةٍ لم يُولَد بعد.

صباحٌ جديد،
نافذةٌ على مدينةٍ خامسة،
الضبابُ يُغلّف الأرصفة،
والخطواتُ تمضي مجهولةً في البعيد.
المدينةُ تتحدّث، فأُصغي إليها:
«كلُّ شيءٍ يمرّ،
وكلُّ شيءٍ يبقى.»

أجلسُ...
أكتبُ...
المدنُ ليست أماكن،
بل أرواحٌ تتنفّس،
أحلامٌ تتجوّل،
ذكرياتٌ تتكلّم بصمتٍ عميق.
كلُّ مدينةٍ هي أنا،
وكلُّ مدينةٍ هي الحلم،
الحلمُ الذي بدأ منذ اللحظةِ الأولى،
والذي لن ينتهي أبدًا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى