الاثنين ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم عبد الخالق عبده سليم الجوفي

شيخ الرحالة العرب محمد بن ناصر العبودي

بينما كنت أتصفحُ بشهر رمضان المبارك عناوين الكتبِ في إحدى المكتباتِ الإلكترونية استوقفتني مجموعةٌ من المؤلفاتِ التي تحكي قصص الرحالةِ العالميين والعرب... كانت أسماءً كبيرةً تزينُ أغلفة الكتب من ابن بطوطة إلى ماركو بولو، ومن ماجلان إلى كولومبوس، ولكن بين تلك الأسماء الشهيرة برز أمامي اسماً بدا مألوفاً ولكن قد لا يكون مشهوراً لدى العامة كغيرهِ رغم أنه يمثلُ كنزاً حقيقياً في أدب الرحلات العربي... كان ذلك هو محمد بن ناصر العبودي.

لم أستطع مقاومة فضولي فبدأت بتصفح بعض الكتب التي تحملُ اسمه، واكتشفت عالماً من المغامرات.. التأملات، والاستكشافات التي تحمل روحاً مختلفة عن الرحالة التقليديين... وجدت أنهُ ليس مجرد رحالة يجوب الأرضَ وإنما هو فيلسوفٌ يتأملُ الثقافات.. عالمٌ يدرسُ المجتمعات، ومؤلفٌ يُترجم الروحَ البشرية من خلال سفرهِ في أقطارِ الأرض.
ومنذُ ذلك الشهر المبارك نذرتُ وقتي وجهدي للشروع في تأليف كتابٍ يتناول سيرة الشيخ ورحلاته الآسرة، مستغرقاً في هذا المشروع النبيل حتى يومنا هذا، مؤملاً أن يُكتب له التمام على نحوٍ يليق بمكانته السامية في ميدان الأدب الرحلي، ويعكس أثرهُ الباقي في الوجدان الثقافي والإنساني.

إنه عملٌ أطمح من خلاله إلى إعادة تقديم الشيخ إلى الأجيال الجديدة، ليغرفوا من تجربته الفريدة دروساً في كيفيةَ تكون الرحلة سبيلًا إلى المعرفة، وجسراً للتواصل الإنساني، ورسالةً للسلام تمتد إلى آفاق العالم، فغزارة إنتاجه، ورصانة أسلوبه، وبهاء سرده كانت ولا تزال منارةً تلهم القلم وتغريهِ بالكتابةِ عنهُ بكلِ ما يستحقهُ من وفاءٍ وتقدير.

رحلات المعرفة والإنسانية

ولد الشيخ محمد بن ناصر بن عبد الرحمن بن عبد الكريم العبودي في 30 ربيع الآخر من سنة 1345 هـ / 1926م في مدينة بريدة بمنطقة القصيم في بيئةِ علمٍ وزهدٍ وطلب المعرفة فشبَّ محباً للقراءة والتأمل في عادات الناسِ وتقاليدهم، جمع بين العلم والأدب، وبين عالم الرحلات التي طاف فيها ومن خلالها الآفاق قلماً وبصيرة، حتى غدا موسوعةً تمشي على الأرض فتوثّقُ وتكتب وتنقلُ صورة الإنسان والمكان بصدقٍ ودهشةٍ نادرة.

وظلّ طوال عمره مثالاً للعَالِمِ الموسوعي الذي يسابقُ الزمن بالقلمِ والترحالِ حتى وافاهُ الأجلُ في صباحِ يوم الجمعة 2 ذي الحجة 1444هـ الموافق 1 يوليو 2023م عن عمر ناهز 96 عامًا بعد حياةٍ حافلة بالعطاء العلمي والإنساني تاركاً وراءه إرثاً أدبياً ومعرفياً يخلّدُ اسمهُ في ذاكرةِ الأدب العربي والرحلةِ الحديثة.

عاش طفولةً بسيطةً لكنها غرست فيه حب الاطلاع والاستكشاف، وبدأ حياته كعالمٍ في اللغةِ والأدب والشريعة، ولكن رحلاته التي كانت نتاج عملهِ الذي جعلهُ يتخطى حدود المعرفة التقليدية ليصل إلى فهمٍ أعمق للإنسانية.
ما يميزهُ عن غيرهِ من الرحالة هو شموليةُ اهتماماته؛ فهو يتعمق في تحليل العادات والتقاليد والثقافات، ولم يكتفي بتسجيل تفاصيل الرحلة مثل الطبيعة الجغرافية أو الأطعمة التقليدية... لهُ أسلوبٌ أدبيٌ وفلسفيٌ يثيرُ التساؤلاتِ ويفتحُ أفق القارئ على عوالمَ قد تكونُ مألوفةً في ظاهرها لكنها غريبة عند الغوص في عمقها.

الرحلات وسيلة للتواصل الإنساني

في زمنٍ اتسمَ بالعزلة الثقافية والانغلاق على الهويات المحلية كان صوتهُ يدعو إلى التواصلِ والتفاهمِ بين الشعوب، ومن خلال رحلاتهِ التي تجاوزت لأكثر من 160 دولة أظهر لنا أن العالم شبكةً من العلاقاتِ الإنسانية، وليس خارطةً مقسمةً إلى قاراتِ أو دول.

ركز على المسلمين في المناطق النائية والمجتمعات التي زارها، حيثُ سافر إلى أماكن لا يكادُ يُعرفُ عنها الكثير.. مثل القرى الأفريقية النائية وجزر المحيط الهادئ حيث التقى مسلمين مغمورين وحكى عن حياتهم وأحوالهم... كانت كتاباتهُ تُظهرهُ كرجل يحمل رسالةً تتمثلُ في أن يعرف العالم الإسلامي بعضهُ البعض، وأن يوثق وجود المسلمين في تلك الزوايا النائية.

أدب الرحلات بأسلوب فريد

أسلوبهُ في الكتابة يختلف عن كثيرٍ من الرحالةِ حيثُ يعرض تجربتهُ بعين الفيلسوف الذي يبحثُ عن المعاني خلف الظواهر، فعلى سبيل المثال بإحدى رحلاته إلى أفريقيا تأملَ القيم التي تجمع بين البشر رغم اختلاف الظروف كالصبر والتعاون والكرم، ووصفها مع مشاهد الحياة اليومية.

ففي كُتبه كـ " كّرة أخرى إلى شرق إفريقية الخضراء بعد 33 سنة "، و" ذكرى مغربيّة " و" غينيا الجديدة: آخر الغينيات زيارة: رحلة في بابوانيو غيتي وحديث عن المسلمين " و" العودة إلى غرب إفريقية " وغيرها من الكتب التي تُعتبر مثالاً رائعاً على هذا النهج لمزجهِ بين سرد تجاربه الشخصية، وتحليل العادات الاجتماعية، واستعراض الجوانب الثقافية للمجتمعات التي زارها بأسلوبٍ سلسٍ وشيّقٍ، فأخذ القارئ في رحلة ذهنية قبل أن تكون جغرافية.

الرحالة الإنسان

ما يجعلهُ مميزاً شخصيتهُ الإنسانية العميقة قبل عدد الدول التي زارها أو الكتب التي ألّفها، حيثُ أنهُ وبكلِ مكانٍ زارهُ سعى حثيثاً لفهم الإنسان أكثر من سعيهِ لاكتشاف المكان، مع احترامه لاختلاف الثقافات والعادات، وتعاملهِ شديد التواضعِ مع الناس والذي يُبرز روح الإسلام الحقيقية.

كان يرى في الرحلة وسيلةً للتعلم، وليس مغامرةً للمتعة لذلك فقد وثقَ أدق التفاصيلِ من تقاليد الزواج في القرى الأفريقيةِ إلى وصفهِ كيفية تحضيرِ الطعام في قرى جنوبِ شرق آسيا... كان يؤمنُ أن مثل تلك التفاصيلَ الصغيرةَ هي ما يعكس روح الثقافة، وهي ما يتيح لنا أن نفهم الآخر حقاً.

إرث أدبي وثقافي

إرثهُ شملَ أيضاً تأثيرهُ على أدب الرحلات العربي حيثُ كان يُعيد إحياء هذا اللون الأدبي الذي كاد أن يندثر في العالم العربي بأسلوبهِ الفلسفي العميق، ولم يقتصرُ على كتبهِ التي تجاوزت المئات، فقد أعطى أدب الرحلات بُعداً جديداً يجمعُ بين الأدبِ، الفلسفة، والبحث الاجتماعي.

إنهُ أستاذٌ في فهمهِ الإنسانِ من خلالِ رحلاته وكتاباته، ترك لنا ما يمكننا من رؤيةِ العالم بقلوبنا وعقولنا قبل عيوننا فقط... وهو دليلٌ على أن الأدبَ مهما تغيرت العصورُ سيبقى وسيلةً لفهم جوهر الإنسان.

وهنا أرى أنه من الجدير أن أُشير إلى أسرةِ الشيخ الجليل، فقد كان لي شرفُ التواصل مع الدكتورة شريفة إحدى بناتهِ البارزاتِ والفاضلاتِ اللواتي كنَّ بحقٍ مرآةً مشرقةً لأبيهن، فكانت كريمةً في عطائها، سخيةً بمعلوماتها، وقد منحتني من الرؤى والتفاصيلِ ما كنتُ أبحث عنه طويلاً، وشجعتني على المضي في إنجاز هذا العمل حتى يَرى النور قريباً بإذن الله، وجديرٌ بالذكر أن لها مؤلفاً قيّماً شاركت فيه مع شقيقتيها الدكتورة فاطمة والدكتورة لطيفة بعنوان "الشيخ محمد بن ناصر العبودي من خلال عيون بناته" وهو عملٌ يوثّق جانباً إنسانياً وفكرياً نادراً من سيرة هذا العلم الكبير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى