الجمعة ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم عبد الخالق الجوفي

الموتُ المحدق بالحياة لم أمت... فثمّة أحد يحتاجني

في أحد الأزقّة المنسية من مدينة أنهكتها الحرب في قلب غزة التي تصارع الحصار والموت كان ياسر ـ ابن العشر سنوات ـ يجرّ خطواته فوق الركام كما لو كان يحمل العالم فوق كتفيه! لم يعد بعينيه متّسع للدهشة، ولا حتى للدموع فقد كان وهو الطفل الذي لم يجاوز العاشرة يقف كجذع زيتونة عتيقة راسخة رغم العواصف ورغم صغر سنه.. فهو ومنذُ ولادته لم يجد للطفولة في حياته مكان فقد نشأ بين أصداء القذائف وصدى المنازل التي انهارت تحت وطأة الألم.

ذلك الصغير الذي حمل المسؤوليات الكبار اعتاد أن يهرع لاحتضان أشقائه الثلاثة كلما دوّى صوت الانفجارات ليُلقي بجسده النحيل درعاً يحميهم من رعب الصواريخ والقذائف التي لا تفارقهم لحظةً منذُ ما يربوا على العام.. كان لها وقعٌ مُختلف بالليل... أما والدته فقد أخذ منها الخوفُ والرعبُ المتواصل على أطفالها قوتها، وسلب المرضُ معنى الحياة فيها، وتركها الحصار بلا دواءٍ بينما كان والدهُ يغيبُ بالأيامِ وأحياناً بالأشهرِ بحثاً عن لقمةٍ تُبقي عائلتهُ على قيد الحياة.

في ظهيرة يوم خانق اشتعلت أصوات القصف مجددًا كعادتها، فأسرعت العائلة إلى زاوية داخل المنزل يرون أنهُ المكان الذي يبدو أقل خطرًا... كان قلبُ ياسرُ يخفقُ بسرعةٍ وخوف لكنه كتم خوفه ليبث الطمأنينة في عيون أشقائهِ المرتجفةُ أوصالهم ووالدتهُ المريضة... هناك كانوا يرسمون في الظلام دعواتٍ صامتةٍ بأن تمر العاصفة دون أن تأخذ شيئًا منهم.

يطول الليل على وقع ازيز الطائرات والقصف والصواريخ وما أن يجيء الصباح حتى يتسلل النوم إلى أعين الصغار.. أم ياسرُ فيخرجُ ليواجه الخراب والدمار الذي كان ينهش مدينته كما ينهش الجوع أحلامه ويمرُ على جيرانه متفقداً إياهم وكأنهُ رجلٌ كامل الرجولة فيمرّ بجوار مدرسته التي أحبها بصدق ويشتاقُ إليها وكانت نافذتهُ إلى العالم بعيداً عن الدمار.. فقد كان حلمهُ أن يصبح طبيباً ليضمد جراح مدينته المنكوبةُ باحتلالٍ بغيض.. يقفُ بين الأنقاض ليتأمل المقاعد المحطمة، وكأنه يودع أصدقاءه الذين غادروا الحياة نتيجة العدوان الصهيوني، ويرى كيف احترقت مدرستهُ وأصبحت رماد لأحلامه المعلقة.

كان يرى ذلك المنظر بشكلٍ يومي لكنهُ لم يستسلم... فقد كان يخرج كل يوم حاملًا دلواً صغيراً ليقف في طوابير المياه الطويلة تحت الشمس الحارقة لإحضار الماء لإخوانهِ وأمه... كانت عيونه تتحدث أكثر مما يقول حين يتخيلُ أطفال حول العالم يحملون حقائب المدارس بينما يحمل هو هموم يومٍ آخر.

وفي ليلةٍ غدر فيها الظلام انتفض ياسر يحمي أشقاءه بجسده الصغير حين دوى صوت انفجار هائل في منزلهم.. لكن القذيفة لم ترحم المنزل.. وبالرغم من نجاته إلا أن الثمن كان غالياً جداً فقد أصيب والديه إصابات بليغة ليحمل مالك والديهِ بروحه المثقلة إلى المستشفى حيث كان الأطباء يقاتلون بأيديهم العارية لإنقاذ الأرواح وسط نقص كل شيء... كأن الزمن توقف بعجزٍ مؤلم.. كان يشعرُ أن ما يحدثُ كابوسٌ لعين أتى ليختطف روح والديه اللذان كانا شعاعَ الأمل الوحيد المتبقي لديه.. والدهُ الذي يفارقهم بحثاً عن لقمة العيش وقد أتى ليلتها.. ووالدته التي تنهشُ الأمراض جسمها بظل غياب الدواء نتيجة الحصار المطبق عليهم من الصهاينة، والتي كانت تتشبث بأنفاسها الأخيرة لكن دون جدوى.

لم يعد للدموع مجالٌ تلك الليلةُ فقد ذرف كل ما في القلب منذ أن سقط البيت فوق رأس أمه وأبيه.. ومنذ ذلك اليوم صار هو الأب، والأم، والحارس الليلي في عتمة ظلامُ الذي يتخللهُ ضوء القمر متكسراً كقلوبهم تماماً فإخوته الثلاثة... حسن ذو السبع سنوات الذي يبلل فراشه كلما سمع دوي انفجار، ومنى التي لا تزال تسأل متى ترجع ماما؟، وسليم ذو الثلاثة أعوامٍ والذي لا يفهم شيئًا سوى أن البكاء هو وسيلته للنجاة.

عاد مالك إلى ما تبقى من منزله بعد تلك الليلةِ المشؤومة ليجد نفسه في مواجهة واقع جديد، فقد صار الآن أباً وأماً لأخوته الصغار، وأصبح لزاماً عليه إضافةً إلى مهامه السابقةُ أن يؤمن الغذاء لهُ ولإخوانه الصغار في حين أنهُ لم يُجاوز العاشرة! يعمل هنا وهناك ليجمع ما يسد الرمق، ويقف في طوابير لا تنتهي.. كانت عيناه تحملا حزناً يفوق عمره بسنوات... كان نحيل الجسدِ لكنه عظيمُ الروح.. يقف كرمزٍ لصمودِ غزة المُحاصرة والمقاومةُ.. لكنهُ يحمل في قلبه الصغير مرارة الفقدان محاولاً غرس بذور الأمل في داخله.

كانت الحرب لا تُبالي بصبرهِ ولا همومهُ الأكبر من عمرهِ وحجمهِ... فالموتُ يمرّ على مقربة منهُ كل يوم.. يشمّه ثم يمضي، وكأنه يعرف أن هذا الطفل لا يمكن اصطياده بعد فلا يزال هناك من يحتاجه.

وبليلة شتائية قاسيةٍ اقتحم البردُ بابهم المهترئ لتمرض منى.. صار وجهها أزرقَ كالسماء التي تظللهم منذُ دمر سقفُ منزلهم.. حملها فوق ظهره، وركض في الشوارع الخالية يبحث عن مستوصف.. عن دواء.. عمن يمكنهُ مساعدتهُ في محنتهُ التي جعلت من عينيه منبعاً للدموع التي لم يستطع حبسها نتيجة شعورهُ بالعجز والفقد لوالديهِ... سقط مرة.. مرتين.. دمعت عيناه لكنه لم يتوقف.

حين رأى نوراً في نهاية الشارع ركض نحوه كأن الحياة نفسها تركض فيه.. لم يكن يعرف إن كان مستشفى أم غير ذلك... لكنه رأى فيه بصيصاً لأمل مفقودٍ ويفتقر إليه منذ فقد والديه.

نجت منى... وعاد برفقتها إلى حضن الليل، وإلى الغرفة الضيّقة حيث ينتظره حسن وسليم.

تلك الليلة كتب على الحائط بالفحم:

أنا حيّ... ليس لأنني أقوى من الموت بل لأنهم أضعف مني إن متّ.

ومنذ ذلك اليوم لم يعد ياسر مجرد طفلٍ بل صار رجلاً في جسدٍ صغيرٍ يمشي فوق الحطامِ حاملاً وطناً صغيراً اسمهُ العائلة.
وفي كل ليلة كان ينظر إلى السماء السوداء على وقع دوي الانفجارات مُتذكراً والديه متأملاً النجوم الخافتة عبر الفجوةِ التي أحدثتها القذيفة التي تسببت في استشهاد والديه.. لم تفارقهُ الدموعُ البتة.. وبرغم ذلك لم يُريها لأحدٍ من إخوته الصغار، وظل يتساءل: هل سيأتي يومٌ نرى فيه النور بلا خوف هل يمكن أن ننام دون رعب؟!... ورغم أن الإجابات ظلت مجهولة إلا أنهُ وككل أطفال غزة متمسكٌ بالأمل برغم الموت المنتشر بكل مكان وبرغم رائحتهُ التي صارت أريجاً بكل نواحي غزة فالموتُ لديهم رحمةٌ مما يعانونه بظل الخذلان اللاإنساني لهم.. كان يؤمن أن المقاومة ليست بالبندقية فقط بل هي في الصبر، وفي الحلم، وفي البقاء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى