عندما أنصت إليه...
لم أكن أعلم أن الشقة التي قبالة شقتنا قد سكنها أحدهم؟ غير أني في ذات مساء حين خرجت الى الشرفة كي أريح هاجس وحدتي حين يسألني عن حياتي كثيرا، رأيت أن أخرج معه لنتسامر على ذلك الكرسي الخشبي الهزار الذي تركه لي والدي بعد وفاته ولم يتسنى له استخدامه، جلست وهاجسي يهز نفسه معي متسائلا!؟ ماذا يدور في قلبك يا نائلة؟ إستغربت سؤاله وهو يعلم جيدا أنه خال من أي صور لفارس أحلامي، لقد بلغت الأربعين من عمري الذي قطبت من خلاله جراح من كنت اعتني به منذ اكثر من ثمان عشرة سنة، نسيت فيها نفسي ومشاعري تماما حتى اختلاطي مع العامة من الناس وجيراني وزملائي في العمل محسوب بدقة، كنت غير متفرغة للإختلاط معهم لا في المناسبات ولا غيرها فوالدي كان مشلولا كليا بعد ان اصابته جلطة دماغية القته من على درج العمارة وهو يصعد للشقة، فشلته نهائيا وبات ميت سريريا لكن الله اراد له البقاء حيا وكنت أنا من تعتني به بعد وفاة والدتي فجأة، كنت الابنة الوحيدة لهما فكان لزاما علي ان اعتني به بنفسي رغم أني حاولت جلب احداهن لتعمل على خدمته وسعيت الى جلب ممرضة لكن لا طاقة لهن عليه فتركت الامر لنفسي فما حك جلدك مثل ظفرك... فنسيت كل طموحاتي ورغباتي، سخرت حياتي الى العناية بوالدي الذي مات منذ أربعة أشهر، في ذلك المساء حين وضعت امامي فنجان القهوة ورواية مدينة الحظ التي احب قرائتها، وما ان ارتشفت من فنجان قهوتي وقبل ان اتصفح الفصل الذي وصلت إليه سمعت عزف لكمان حزين مس جوانح نفسي فزادها وجعا تغيرت ملامح وجهي، إقعشر بدني، رميت بأذني الى البعيد قبل عيني، فراحت تترصد مصدر الصوت تنصت الى ذلك الكم من النغمات الحزينة التي هيجت مشاعري و أحاسيسي كأني أفتتح ستار أسئلتي التي كان مخبأة في جارور النسيان، و فجأة عرفت المصدر إنه يخرج من تلك الشقة التي قبالة شقتي... استغربت!! فأنا أعلم أنها غير مأهولة منذ زمن... لكن يبدو أنه هناك من وطئها لكأنه يترجم و يتعرف على الجيران بأحاسيسه من خلال عزفه، يا الله إنه كمن يعيد هواجس فتاة في العشرين و رغبتها بكسر قيود إمرأة منسية تعيش الهامش فترة ابدية، حضنت الرواية وتذكرت صوفي بطلة الرواية وهي تنتظر ان يفاجأها أي جي حبيبها الذي لم تكن تتوقعه.... توقف الصوت فجأة فرجعت الى الوراء قليلا على كرسي الهزار وقد بردت قهوتي، وإذا بالشرفة تفتح ليخرج مطلا منها رجل اشيب الشعر ملتحي بشكل مرتب أنيق الملبس والمظهر وهو يمسك بكمانه ويرمي ببصره الى البعيد هنا وهناك حتى وقع نظره علي، وما ان علم بأني انظر إليه هز لي رأسه بالتحية ومن ثم ادار ظهره ودخل دون أن يغلق شباك شرفته وراح يكمل العزف وهو يعلم جيدا أني استمع له..
في صباح اليوم التالي سارعت الى الشرفة كي أراه فقد شغفت مشاعري واحاسيسي لرؤيته... إن له إطلاله رائعة، كفتاة مراهقة كنت قد وضعت بعض من مستحضرات التجميل ثم لبست ثيابا انيقة قبل خروجي الى مكان عملي تمنيت ان احظى برؤيته قبل ان اخرج كي اجعل يومي جميلا كإطلالة محياه... لكن مع الاسف لم يكن الحظ مواتيا، خاب ظني وظن هاجسي الذي شعرت به انه متقد بالحياة و الامل الذي طويت رسالته منذ العناية بوالدي حتى وفاته، لا بأس قال لي ستلتقيه في المساء فلابد انه سيعزف الليلة فهو كما يبدو فنان فلابد لمشاعره وانامله ان تلامس اوتار قلبه والذي اقول ربما.. ربما خاض تجربة فاشلة او خسر حبا بفراق من يحب..
كانت ردة فعلي على حديث هاجسي بزجره لما قاله وتوقعه.. شعرت بالاحراج من تصرفي لكني ما خبأت امتعاضي حين سمعت ما يجيش به، على اية حال خرجت الى عملي وقد لاحظت بعض الزميلات والزملاء تغير ملامح وجهي و تأنقي فدارت فيما بينهم النظرات و الاحاديث الجانبية لكن لم تجرؤ او يجرؤ ايا منهم على سؤالي.. فأكتفوا بالابتسام لي وبنظرات ود وحب، ما ان انتهت ساعات عملي حتى سارعت بمركبتي الى شقتي، و دون ان اتوقف لإلتقاط أنفاسي سارعت الى الشرفة ففتحتها، صدمت؟!! وجدت ان شباك شرفته مغلقا... شعرت بخيبة الامل مرة ثانية وهكذا مرت عقارب الساعة تلدغني وهاجسي بين فينة وأخرى حتى دخل المساء كنت قد التقطت الرواية مع فنجان القهوة ثم جلست أنتظر... و أنتظر... وأنتظر غير أني لم أسمع أي عزف و شباك شرفته لم يُفتح لكني رحت أقرأ فصلا من الرواية عن معاناة صوفي وخوفها من المستقبل و ما تأمل ان يحدث لها في حال شيء ما يغير ما تمنته.. بعدها حملت فنجان القهوة الباردة التي لم اتذوقها ودخلت الى سريري بعد أن وضعتها على الطاولة في الصالة وانا في عالم المائة سؤال واستغرابي من نفسي و ما حملتها على القيام به في عالم من المراهقة الطائش، على بناء أمل بفارس أحلام لا يعرفني ولا أعرفه كيف سمحت لنفسي وهي تراودني عن أحلام بعيدة وقد نسيت أطياف أمنيات أو رؤى أنثى ترغب بمن يكون سكنا لها وتكون سكن له.. مرت أيام أسبوع كامل لم أسمع أي عزف أو مشاهدة شباك شرفة يفتح.. نسيت نفسي ونسيت ما كنت أحلم به إلى أن جاء ذلك المساء وخرجت كي أفتح شباك شرفتي لتغيير هواء الشقة ثم بعدها أكمل قراءة الرواية الى جانب فنجان القهوة المُرّة غير معتنية بنفسي ولا شكلي .. تفاجأت!!! كان هناك واقفا يمسك بوردة بيضاء التي ما أن رآني حتى إنحنى لي وهو يمد يده إتجاه كأنه يقدمها لي... سارعت بالدخول مثل طفلة هاربة مما تراه فصرخت يا لفظاعتي ترى ماذا سيقول عن شكلي وقد خرجت له بهيئتي تلك، يا لحظِ التعس سارعت الى جانب شرفتي، اختبأت وأنا أتطلع إليه وهو يمسك بالوردة التي تركها أمامها وأمسك كمانه ليعزف ما طاب لي أن أسمعه دون أن ابوح له بما أحب الإنصات إليه، إنها موسيقى كوكب الشرق موسيقى أغنية بعيد عنك حياتي عذاب...
لا زلت أتذكر تلك الصباحات والمساءات ونحن نجلس قبالة بعضنا البعض في شرفة واحدة في مكان غير المكان وهو يعزف لي ما اود سماعة و أنصت إليه... لقد حظيت بمن أحببت دون سابق إنذار، لقد أباح و أفاض لي بمشاعره، ففي تلك الفترة التي غابها كان يراقبني عن بعد وعرف عني ما شجعه للإرتباط بي فكنت أميرته التي ينتظر وكان فارس احلامي الذي تمنيت.. نهاية جميلة كان للحظ الدور الذي دفع به القدر كي يكون تذكرة الأحلام في مدينة الحظ التي نعيش.
