السبت ٢ آب (أغسطس) ٢٠٢٥
بقلم خالد شاهين

عن الجوعُ وحبَّةُ قمحٍ في الذكرى الثانية للشاعر زكريا محمد

وضعتُ الرغيفَ برفقٍ على بلاطِ العَتَباتِ المقدَّسةِ، ليحبو نحوَ ذاكرةٍ من طينٍ، وتركتُ الفجرَ يُكمِلُ خروجهُ دونَ لَثٍّ ولا عَجْنٍ. جلستُ في ظلِّ صخرةٍ كنتُ أمرُّ عنها، دونَ أن أسألَ عن اسمِ الوادي الذي جَاء بَها. كلُّ شيءٍ صارَ معي بأقلِّ من ضربةِ منجلٍ، حلمٌ صغيرٌ يجرُّ خلفَهُ قَمْحةً. القَمحُ؟ فراغٌ كبيرٌ يحملُ في قلبِهِ شَهقةً، الأمورُ ذاهبةٌ للبحثِ عن التنُّور، يكفي شروقُ الشمسِ كلَّ يومٍ، وكأنَّها الرغيفُ الأكبرُ الذي استوى ولم تُحرَقْ جوانبُهُ الأربعةُ. أركضُ بلا وعيٍ، كأنني أطلبُ مغفرةً عن خطيئةٍ للتوِّ ارتكبتُها. الجوعُ: خطيئةٌ تتسلَّلُ في رُوحي، تجعلُ الحليمَ يغضبُ من أصغرِ كلمةٍ، وما زلتُ على حاليَ الرثَّةِ، أبحثُ عن التي مرَّتْ بقربي، ولم أفعلْ لها شيئًا غيرَ طهيِ الوهمِ، كي تَشبَع. أكتبُ عن وجعِ البطنِ، بعدما نَفِدَ الصوتُ منِّي، لأنِّي اعتدتُ أن أصرخ. زكريا: أنا لم أحبَّك بما يكفي، لأنِّي تركتُ النسيمَ يخلطُ عطرَك بالترابِ، دونَ أن أمنعَه. شغَلني عنكَ الرغيفُ، الذي صارَ صلاتي الوحيدة. أسجدُ لهُ بخشوعٍ عندَ غيابِهِ المُرِّ، بل أفعلُ أكثرَ من ذلك، أستلقي على بطني بتوسُّلٍ، كما يفعلُ أهلُ الدياناتِ الغريبة. أنا لا أطلبُ العفوَ من أحدٍ، ولا أعتذرُ عمَّا بدرَ مني من لَغَطٍ، مأساتي جاءتْ نتيجةَ هذا الضغطِ سيِّئِ السُّمعةِ. النَّدَمُ ليسَ هروبًا من معصيةٍ، بل اعترافٌ مؤجَّلٌ عن قلَّةِ الحيلةِ. واليقينُ السؤالُ الذي لا جوابَ له. هناك فرشُ العجينِ، لا يكلُّ من الانتظارِ أمامَ الفرنِ، تجلسُ صبايا الطحينِ، كأنَّهُنَّ ينتظرنَ أميرًا يأتي.

ألمحُ واحدةً منهنَّ، أهيَ تُغنِّي؟ أم تتنهَّدُ؟ نعم، أنتِ يا صاحبةَ الرداءِ المَخْرومِ، عنكِ أقول. من فينا يختبئُ في انتظارِ المزيدِ من الأرغفةِ؟ ومَن مِنَّا لا يريدُ أن يشمَّ بُخارَ الخبزِ، الذي يُشبه أنفاسَ فمكِ في لحظةِ حُبٍّ؟ رميتُ الخبزَ في التنُّورِ، كي أُعلنَ الحربَ على الجوعِ. من بدري، قطعتُ العجينَ، وانتظرَ الْواحِد منهم أن يخرجَ لي على هيئةِ شمسٍ كسولةٍ، طلَّتْ من فوقِ بركانٍ خامدٍ. أرى اسمي محروقًا، أغلبُ الظنِّ سيبقى كما هو حينَ تُناديني. الحروفُ: أرغفةٌ احترقتْ مع العُشبِ الناشفِ فوق الأرصفةِ. تمهَّلْ، ولا تَرْمِ عليَّ التُّهَمَ، لأنَّ اسمي لم يُعجبْك. يقول زكريا محمد: "الاسمُ خدعةٌ، وهو لن يدلكَ على الكنزِ المخبوءِ في الجزيرةِ ". مُغبَّرًا يخرجُ اسمُكَ، يستجدي كيسَ طحينٍ، وعادَ مطحونًا مثلَ قَمْحةٍ تحتَ حجرِ الرَّحى. اقتربَ من الكيسِ المُلطَّخِ بالموتِ وقال: نحنُ، يا مولاتي القَمْحة، نَشعرُ بالجوعِ الذي يتدرَّبُ على أجسادِنا، كنحَّاتٍ يحفُّ رِقابَنا وصُدورَنا، وتظهرُ العظامُ على هيئةِ هيكلٍ. نشعرُ بالذلِّ المتعمَّدِ من "شلومو"، الذي طالما رآنا نحنُ العبيدَ. المدينةُ تحتاجُ حبَّةَ "تفرانيل" عيارَ خمسةٍ وعشرين، كي لا تبولَ على نفسِها أكثرَ من ذلك.

تحتاجُ شربةَ زيتِ خروعٍ، كي تَلفِظَ مُفاوِضيها من المؤخرةِ. سأكسرُ كلَّ قواعدِ هذه اللعبةِ، وأختارُ الليلةَ ضيفاً يطرقُ بابي، من عائلةٍ غيرِ معروفةٍ، وقبيلةٍ ليسَ لها ثِقلُ بعيرٍ في هذا القطيعِ. يعرفُ أنني لن أقدِّمَ لهُ الشاي، لأنَّه يعرفُ قدرتي على الصبرِ المُرِّ. أُلمِّحُ بعبارةٍ غيرِ مفهومةٍ، بخجلٍ: ليسَ لدينا سُكَّرٌ. تمرُّ عن حظيرةِ الشَّبعِ، تصدمُكَ الأسعارُ، والأشعارُ تخصي البلادَ الثائرةَ عن قصدٍ، تستدرجُ الخبزَ المعجونَ بملحِ العينِ على هيئةِ حُزنٍ، لا يكفي لإطعامِ الحمامِ على السطحِ. لا فُتاتَ يكفي العائلةَ أصلًا. لا تأخذني إلى ضجيجِ السوقِ، كي لا أرى حبَّةَ التينِ الممنوعةَ من اللّمسِ، وقطفَ العنبِ المغرورِ، كيف يُباع. الجوعى مطروحونَ على جنوبِهم، يتفكَّرونَ في أصلِ رغيفِ الخبزِ، الذي يعودُ إلى قمحٍ وشعيرٍ، ورَشِّ ملحٍ وملعقةِ خميرةٍ، لم يَبقَ رغيفٌ واحدٌ في السَّبَتِ، ولو أني وجدتُ، وعداً منِّي أن أقتلَ هذا الوغدَ، وأقولَ مُفاخِراً: هذا الخبزُ غريمي، وعليَّ أن أجعلَ من الشِّبعِ يوماً أُغنيةً. المطحونُ مثلَ قَمْحةٍ: عَلِمَ أنَّ الشاحناتِ قادماتٌ غداً، واضحٌ هيَ أكثرُ الانتظاراتِ فرحًا وسخطًا. لا يمكنكَ التخمينَ، هل تنجحُ المحاولةُ بالعودةِ بكيسِ طحينٍ؟ جهِّزْ فمكَ لوجبةٍ دسمةٍ، أو جسدكَ لِكَفَنٍ. قريبًا، ستحتاجُ أن تُشعِلَ نارَ "البوتاجاز" وهذه أيضًا أمنيَّةٌ، تنتظرُ طوالَ الليلِ استواءَ العتمةِ، ومفاصلَكَ من السعيِ. "لا يمكنُ العثورُ على كسرةِ خبزٍ بالسَّاهلِ".

في أكتوبرَ القادمِ، سوف تَسقطُ الصورةُ، ويسقطُ الهَزلُ. لن ينفعَنا عويلُ ألواحِ الصبرِ، أقولُ هذا لِمَن رَهَنوا أنفسَهم للخيمةِ، البكاءُ لا ينفعُ أبداً. والخسارةُ ذاتُها لا تنفعُ بعدَ السابعِ من حسرتِنا. واليأسُ سيحتلُّ مكانًا مرموقًا في النواحي. أعرفُ نقطةَ توزيعِ المهزلةِ، وقَفلةَ القصيدةِ، لذا، يجبُ البحثُ عن ممرٍّ آمنٍ للخروجِ. وجعلُ الجوعِ يبدو درساً في التحمُّلِ وتهذيبِ النفسِ، قبلَ أن يُعذِّبَها. وأخيراً يا زكريا، أنتَ لا تملكُ إلَّا أن تُمنِّي نفسَكَ ونفسي معك بقولِ اللهِ:

"وبَشِّرِ الصَّابِرِين"


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى