

غزّة وطن، ليست عقارا
إهداء
إلى أطفال غزة محبّي الأمن والحرية.
امتطى حسام القطار، قطار العابرين من هنا، العابرين على جحيم محرقة، محرقة أطفال، ونساء و شيوخ عجز، وقف وقفة صمّاء مخاطبا من معه:هذي هي جرائمهم التي لا ولن تمحى والى الأبد، جرائم لا تمحى بالنسيان، أو بالتقادم، إنّها جرائم إنسانيّة ستبقى منقوشة في ذاكرة وطننا المفدى، جرائم نكراء لم تعرفها البشرية منذ الأزل هكذا قال حسام الطفل الذي كبر عبر جراحات وطن مزّقته حمم المقنبلات، أطنان تلّقى على ساكنة لا ذنب لهم عدا تعلقهم بأرض الآباء والأجداد بعدها أدار رقبته رأى في ما رأى أشجار ا تميل تكاد تسقط، أو إن شئت قل تقلع من جذورها لقد رأى هذا عن مضض، ثمّ راح يرنو إلى لا شيء رأى أشجارا واقفة في وجه الرّيح، ريح جائحة تدور تأخذ شكل عاصفة هوجاء، عضّ على شفته السّفلى بالبَرد، ثمّ غاب خلف نقاب الغضب،
لم يكترث حسام لهذا المشهد التراجيدي ومال برأسه مسّندا إيّاه على جدار المقصورة، غفا تراءى له مشهد أناس وقد شكّلوا حلقة شبه دائرية والحلقة تتشكّل في رحم الأحزان تأخذ شكل خريطة وطن، مشهد مربك حزين تراءى له وائل الدحدوح يتوسط الحلقة قائلا في نبرة موجعة: "لا شيء أصعب من آلام الفقد، وعندما نتجرّع هذه الآلام مرّة تلو الأخرى تكون الأمور أصعب، وأشدّ، ولكن ماذا عسانا أن نقول: حسبنا الله، ونعيم الوكيل هذا هو خيارنا، قدرنا، ويجب أن نرضى به مهما كان، وأملنا أن يرضى الله عنّا، وان يكتبنا مع الصابرين، هذا قدرنا، وخيار كلّ النّاس فوق هذه الأرض، النّاس تودّع فلذات أكبادها أفواجا أفواجا في كلّ يوم، وفي كلّ ساعة، وفي كلّ دقيقة، وفي كلّ لحظة. ماذا عسانا أن نقول:نحن ماضون وهذا قدرنا و هذا خيار كلّ الناس، وحلمنا أن يرّبط الله سبحانه وتعالى على قلوبنا، وقلوب كلّ الناس، وان يمدّنا بأسباب الصبر، والقوة حتى نستطيع المواصلة، لهمزة ولكلّ الشّهداء نقول:أننا اخترنا هذه الطريق طواعيّة فأعطيناها كثيرا من لحمنا وسقيناها دماء غاليّة لأنّ غزّة دم يسري في عروقنا، قوافل من الشّهداء مرّت فوق جراحنا، وأمام أعيننا ورغم هذا نحن ماضون، وهذا هو التحدي الكبير. صحيح أنّ الإنسان يحزن ويتألم، ويتوجّع، ويبكي كثيرا، ولكن هذه هي الدموع التي تميزنا عن أعدائنا، نحن مشّبعين بالإنسانيّة وهم مشّبعون بالقتل، والحقد، والتشريد، والإبادة، صحيح أننا نبكي ولكنها دموع الإنسانيّة، دموع الكرامة، والشّهامة، وليست دموع الجزع، والخوف، والاستكانة، وهذا يدفعنا إلى تحدّيات أخرى، نحن ماضون، ومستمرون ولكن على العالم أن ينظر إلى ما يحدث في قطاع غزة، ما يحدث مؤلم وموجع انّه ظلم كبير في حق شعب اعزل وفي حق صحفيين قيل:أنّ المعلومة مكفولة بالقانون، وبالمواثيق الإنسانية ولكن أكثر من مئة صحفي سقطوا على هذه الأرض الطّاهرة المطهّرة وكأنّ لا أحد سمع بهذه الأخبار، أو كأنّ لا أحدا لم ير ما يجري".
مدّ حسام يده ماسحا دموعا حارة مردّدا في صوت موجع: هذا هو خيارنا، وهذا هو قدر كلّ الناس. هذا هو طريقنا الذي اخترناه طواعيّة لسنا أفضل من الآخرين، ووجع الآخرين وجعنا جميعا، لسنا أفضل من الذين رحلوا، وهمّنا لن يكون اكبر من همّهم انّه همّ هذا الوطن الذي ينام على خبر ليستيقظ على فاجعة أخرى، ، هذا هو قدرنا، قدرنا أن نقف في وجه الرّيح، الرّيح هي التي توجهنا، وهي التي تختار وجهة وطننا المفدى، وطننا الذي مزّقته الحرب لذا علينا أن نقاوم، لسنا أفضل من الآخرين، الآخرين تمزّقوا واستشهدوا أيضا إنّهم شهداء الحرية والوطن، شهداء مرّوا من هنا، مرّوا ولم يقولوا شيئا عن العودة، لقد تحدّوا الرّيح، ريح وقد أتت على مدننا، ريح وقد نست أنّنا أيضا مدن، ولسنا عقارا يباع في سوق البورسة، غزّة ليست للبيع، غزّة وطن، وطن ممتد عبر جراحاتنا، آلامنا، إنّها أرض الشّهداء، لسنا ندري كيف تناسى هذا الشاري أنّ طفلا سيولد، طفلا يشبه مدينتنا، طفلا سيمشي مشيتنا ليقف هو الآخر متحديّا الرّيح، طفلا سيعرف كم هو هذا العالم بائس بما فيه الكفاية، عالم تافه شاهد على وقع مجزرة، عالم يعيش على ألم الآخرين، هابيل، قابيل ,وأختهما عادوا، عادوا وعاد معهم الغراب، والغراب أستاذ الجريمة، علينا أن نقف في وجه الرّيح، علينا أن نردّد معا سنبقى هنا مهما اشتد القصف، ونزل الحجر، علينا أن نردّد سنبقى هنا صخرا لا يهزّه إعصار.هل انتم تسمعونني يا عابري حدود، أنا حسام الرّجل الواقف في وجه الرّيح، ريح وقد هبّت حاصدة آلتها كلّ ما هو جميل، ريح خرّبت ذاكرتي، وذاكرة وطني لقد أتت على أطفال لا ذنب له عدا تعلّقهم بأرض أجدادهم وآبائهم الأوّلين،
أنا حسام الطفل الواقف على ساق وسوق واحدة، الطفل الذي أخذت منه الحرب القذرة رجله إلى أعلى الفخذ، أنا حسام ابن مدينة غزّة، ابن فلسطين العزّة الجريحة لقد تذكّر حسام طفولته البريئة، ثمّ شخص ببصره كانت وقتها الطائرات تحوم على غير عادتها فأخذ يرقبها عن كثب، ولم تمض إلا دقائق حتى بدا القصف، قصف كلّ ما هو جميل، صرخات هزّت المدينة، والقطار لم تعل عقيرته بعد كان الوقت ثقيلا، ثقيلا جدا، والهواء حامض، فنهض مستجمعا بقاياه متكئا على عكاز تناءى إلى مسمعه صوت يقول:كثرت العكاكيز ضحايا الحرب كثيرون حينها وقف وقفة صماء وأخذ ينظر في زوايا المقصورة وكأنّ شيئا مخبّأ بين خرائبها بعدها غادر القطار وفي قلبه غصّة،
– صاح أحدهم قائلا: مهلا حسام لا داعي للقلق فكل شيء سيأتي مع مرور الوقت،
– ردّ في صوت كأنّه البوق حتى رجلي تعود مع مرور الوقت، ثمّ أخذ الطريق.
-صوت آخر يعلو: انتظر يا رجل فالدنيا لم تأخذ حاجتها منك بعد.
أدار رأسه واخذ ينفخ في الهواء قائلا:لقد أخذت مني أشياء كثيرة، لقد أخذت أغلى ما املك، ومهما يكن من أمر سأبقى واقفا في وجه العاصفة هل انتم تسمعونني يا أعداء الأمن، والسّلم، والوئام بعدها علا صوته: إن لم تقفوا جنبي الآن فأنا لست بحاجة إليكم حين تشرق الشّمس، فانا لن ابرح مكاني، سأبقى هنا، هنا ولدت وهنا سأبقى حتى أدفن جنب الذين تقاسموا معي الخبز، والملح، فلم تمرّ إلا دقائق وأخالها أقل حتى رنّت صفارات الإنذار، تذكّر هذا وعاد بذاكرته إلى الوراء وراح يلمّ حوائجه على عجل، إنّ أشياء غامضة تتراءى له ثعبان يتلوى، هزّه قلق أحمر، إنّ صيحات وصفارات إنذار تغطي الأمكنة، تضفى عليها مشهدا آخر، مشهدا يشبه حبّة ليمون تفتح شهيّة الموت، والسّماء تمطر قنابل، أعمدة دخان تتصاعد غطّت معالم المدينة، نساء، أطفال يتحركون في كلّ حيز، أضحت المدينة عائمة في ضبابية والناس يركضون، صلوات، نداءات، يموت من لا يستطيع الركض في الطرقات والحوامات تقصف المدينة تأتي على البنيّة التحتيّة تهزّها، تضفي على الشوارع رعبا قاتلا.
مشى حسام لم ير إلا جثثا مفحّمة مرميّة في السّاحات وعلى قارعة الطرقات، سيارات الإسعاف تزيد الموقف انكسارا، حركات تقشعر لها الأبدان، والسّماء تمطر قنابل تتفسّخ لها الأجساد، لا شيء هناك، صمت مطبق، أنفاس حُبست، ازدادت دقات قلبه خفقانا، اغرورقت عيناه دموعا، صراخات تنبعث من تحت الأنقاض تملأ الأمكنة عويلا، بنايات تنهار، حمم تتصاعد، أرواح تزهق على مرأى هذا العالم الأعرج، والسّماء تمطر قنابل، سيارات تحترق، محلات تغلق، مخابز انطفأت مداخنها، واختفى على إثرها كحل المدينة، قلوب النّاس واجفة، أبصارها خائفة، قنابل تزلزل الأرض محّدثة رجات عنيفة، لا شيء هناك، لا حلم، لا وطن، لا مكان، لا خبز، لا ماء، لا دواء، فلم يزده هذا المشهد إلا تحديّا، وصمود ا بعدها واصل طريقه وقد ماتت عَبرات في قاع بؤبئه الأسود البعيد لقد أحسّ بأشياء غامضة تهزّه على غير عادته، ولكنه لم يعثر لها على جواب كاف، عرّج للتو قاصدا المستشفى رأى ما لم يُر، رأى جثثا، أجسادا تتفسخ أنسجتها، أياد مبتورة، أرجلا مقطوعة إلى أعلى الفخذ، رؤوسا مهشّمة بكى بكاء مهيض في ليلة عاصفة، عاد بذاكرته إلى الوراء انّ أصواتا تضرب في رأسه بقوة لا تقهر، صوت طفل صغير يفتش عن أمّه، امرأة ثكلى تبكي فلذة كبدها، عجوز يبكي بنيه. ياجوج ماجوج عادوا، فأخذ يصرخ بأعلى صوته، صرخات انشقت لها صدور، وأبكت عيونا والسّماء تمطر قنابل، قنابل تلقى على من؟، على أطفال فقئت أعينهم عنوة. أطفال لم ينم زغبهم بعد. إنّ بقايا أطلال نبتت في عمقه عرّت العالم من الداخل، عالم أغبر لا قيم ولا مثل تشدّه، عالم يتوغّل في وبربريّة عمياء، عالم تافه يدّعي انّه بلد الأنوار.
صاح أحدهم من آخر منعطف لشارع الحرية مستهترا:الأنوار بالنسبة لهم، ثمّ أخذ يصرخ ولكنه لم يسمع إلا صدى صوته يتكسّر عبر فراغات رهيبة والسّماء تمطر قنابل، لاشيء غير هذا الموت المطبق، واللوحة لم تكتمل بعد، وغزّة تعلو، لا شيء يعلو فوق إرادة الإنسان حينها وقف وقفة شاعر بيد أنّ الغراب كان يوقّع آخر أغنيته، قالت الرّيح بعد أن هزّت أوراق أشجار، لا تحّملوا همّا فما هو إلا قلق عابر، قلق استثنائي سيختفي مع مرور الوقت، انّه الوقت يعيد صياغة طريقنا، فلا تحّملوا همّا، نحن هنا متى اقتضى الأمر.
استعاد قوّته ثم خطا خطوات وهو يتوكأ على عكازه، كانت الأجراس تغطي المدينة، والقصف يشّتدّ وقعه، والسّماء تمطر قنابل، والعالم يصلّي صلاة الغائب.اتكئ على عكازه وقد أرخى أذنيه للرّيح سمع أحدهم يقول:"إنّ العالم يحتقر اليهود لأنّهم لا وطن لهم "، صفّق مجيبا في نبرة حادة:هذا ليس اعترافا أخيرا يا عابري حدود، ورغم هذا فأنا لست بخير يا قتلة أطفال خدج، غلى دمه في عروقه متحديّا الظروف رغم أنّ الظروف صخب، ثمّ أخذ ينشد أنشودة الطفولة والوطن: هنا ولدت، ولدت هنا، وسأبقى هنا ما بقيت أشجار، هذه أرضي، أرض التين، والزيتون، هذه أرضي، أرض أجدادي، ستزهر أشجار الخوخ، والرومان في بيت حانون، وستغرّد الطّيور فوق كلّ غصن. هذه أرضي تعرف لمسة يدي، وتعرف وقع خطاي، هنا ولدت، وسأبقى هنا، بنيت عشيّ من وحل الطين، وريش الحمام ومشيت، كنت هنا، هنا كنت يوم مرّ صلاح الدين، كنت هنا، بيد أنّي لم أركم، قالت جرائدكم كلمات معسولة عن ذنب الذئب وخطاب سيّدنا سليمان، أنتم الشّتات ونحن الشّمّل، انتم مجزرة دير ياسين، انتم مذبحة صبرا، وشتيلا، أنتم من قتلتم سنابل الحياة في غزة، ورفح، وخان يونس، وبيت حانون، وجبا ليا أنتم لا أحد، صبرت صبر أيوب، غنيت أغاني الطيور حين حاصرتها الرّيح، نمت ما قُدر لي أن أنام، ولما استفقت وجدت نفسي واقفا بين صيدا وصور، هل أنت تسمعني، أم أنا أنفخ في الهواء !.إنّي هنا من قبل كنت هنا، لا أحد منكم كان هنا، لا أحد، من جيء بكم إلى هنا ؟، هذه الأرض ليست لكم، ولن تكون والى الأبد، لا أرض لكم، لا ميعاد، غزّة وطن، وليست عقارا، من جيء بكم، أنا ابن هذي الأرض المقدسة، أرض الأنبياء. نحن هنا وسنبقى هنا لا قصف يبيدونا، لا مدفعيّة تخيفنا، لا مجزرة تمحونا، نحن من مشى على الرمل لم يسمع صراخنا أحد، ولكن كان لنا أثر. كنّا هنا قبل القصائد، والمطر كنّا هنا، وسنبقى هنا، وهذا مسجد الأقصى قبلتنا الأوّلى.