السبت ٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح سليمان عبد العظيم

ماذا تبقى من مسرح برتولت بريخت؟

ما تبقى من مسرح برتولت بريخت (1898-1956) يتجاوز بكثير مجرد مجموعة من التقنيات المسرحية الرائدة التي قدمها، مثل تأثير الاغتراب، والخطاب المباشر، والبنية العرضية رغم أهمية هذه المفاهيم التي تثبت أهميتها الإنسانية والمجتمعية وثرائها الفكري العميق. ويكمن إرث بريخت الحقيقي في فلسفتة العميقة والمؤثرة التي ترى المسرح ليس فقط كوسيلة للترفيه، بل قوة فكرية واجتماعية قادرة على إثارة التفكير النقدي، ورفع مستوى الوعي، وتحفيز التغيير المجتمعي العميق. فلم يسع بريخت إلى تقديم ترفيه تقليدي يتيح للجماهير الهروب الجمالي من الواقع، بل كان هدفه تحدي المتفرجين، وزلزلة استقرارهم الفكري، وتحريرهم من السلبية. ومن خلال مسرحه، دعا بريخت الجمهور إلى التأمل النقدي في العالم من حولهم، متجاوزا العواطف السطحية ليواجهوا التناقضات الاجتماعية والسياسية التي تشكل حياتهم. ولقد جعلت هذه الرؤية الثورية للمسرح كفضاء للصحوة الفكرية والسياسية من بريخت ليس فقط مبدعا لتقنيات مسرحية، بل رائدا في تحويل المسرح إلى أداة للتساؤل والتغيير، مما يجعل إرثه حيا وملهما حتى اليوم.

ولا يزال هذا الدور الفعال للمسرح حيث يحفز بدلا من أن يهدئ، ويعلم بدلا من أن يشتت يتردد صداه اليوم في العديد من أشكال الأداء المنخرط اجتماعيا وسياسيا. وسواء في المسرح النشط، أو الأفلام الوثائقية السياسية، أو العروض التجريبية، فإن أفكار بريخت لا تزال قائمة على الإيمان بأن الفن قادر على أن يلعب دورا في تشكيل الوعي والمجتمع. لذا، عندما نتساءل عما تبقى من إرث بريخت، فإن الإجابة لا تكمن في التقنية فحسب، بل في الروح: روح اليقظة، والوعي النقدي، والتعبئة السياسية، والأمل في التغيير.

اعتبر بريخت المسرح أكثر من وسيلة لسرد القصص أو الترفيه العاطفي؛ بل كان أداة تعليمية وسياسية، فضاء حيويا لفهم تناقضات المجتمع ومظالمه بدلا من إخفائها وراء الوهم أو العاطفة. ورفض فكرة المسرح كتجربة سلبية يهرب من خلالها الجمهور إلى عواطف الشخصيات الخيالية، وتصور مسرحا فاعلا يُذكر المشاهدين بأن ما يشاهدونه هو تمثيل لقوى وصراعات اجتماعية حقيقية تشكل حياتهم. وكان بريخت يؤمن بأن المسرح يجب أن يوقظ المتفرج، ويدفعه إلى التفكير النقدي في العالم بدلا من مجرد الشعور بالعواطف. فلا يهدف المسرح إلى الانغماس العاطفي، بل إلى الانفصال النقدي والانخراط الفكري الإيجابي، مما يجعل الجمهور واعيا سياسيا ومسؤولا اجتماعيا.

التقنيات المسرحية الرئيسية

يُعد مفهوم "تأثير الاغتراب" (Verfremdungseffekt) الذي طوره برتولت بريخت من أبرز إسهاماته في المسرح الملحمي، حيث يسعى إلى كسر وهم الواقعية التقليدية التي تجعل الجمهور ينغمس عاطفيا في الأحداث، ويحثهم بدلا من ذلك على التفكير النقدي من خلال رؤية الأحداث عبر مسافة تحليلية، مستخدما تقنيات مثل كسر الجدار الرابع. ومن خلال ذلك يخاطب الممثلون الجمهور مباشرة لتذكيره بأن العرض ليس انعكاسا طبيعيا للواقع بل بناء فني مصمم، إلى جانب تقنيات أخرى كالأغاني الناقدة، والديكور المكشوف، والسرد المتقطع، بهدف توجيه وعي الجمهور نحو تحليل القوى الاجتماعية والسياسية التي تتحكم في الأحداث، مثل الرأسمالية أو الحرب، بدلا من الانشغال العاطفي بمصائر الشخصيات الفردية، مما يحفز النقاش والتفكير في تغيير الواقع الاجتماعي. فبدلا من الإنغماس والتوحد مع الشخصيات المقدمة، رغم أهمية ذلك، يحاول مسرح بريخت تحويل وعى الجمهور للمصائر المجتمعية الأشمل، والتشكلات الطبقية الأكثر تعقيدا. وكأن لسان حاله يخاطب الجمهور قائلا: ما أقدمه لكم من شخصيات مجرد عوالم فردية تعبر عن عوالم مجتمعية أهم وأعمق وأشمل.
ويُعتبر استخدام بريخت للبنية التسلسلية في مسرحياته خيارا فنيا متعمدا يهدف إلى تغيير التوقعات السردية التقليدية وتشجيع المشاركة النقدية من الجمهور. فبدلا من اتباع حبكة خطية، قائمة على السبب والنتيجة، تركز على تطور الشخصية الفردية أو العمق النفسي، رتب بريخت المشاهد بطريقة مجزأة ومتقطعة. وتحول هذه التقنية، التي تعرف غالبا بالمسرح الملحمي، التركيز بعيدا عن المصير الشخصي أو التطهير العاطفي، وتوجه الانتباه بدلا من ذلك نحو ظروف اجتماعية وسياسية أوسع. ومن خلال عرض الأحداث بطريقة غير خطية، منع بريخت الجمهور من الانغماس السلبي في القصة، وأجبره على تحليل المواضيع والتناقضات الكامنة فيها بنشاط.

على سبيل المثال، في مسرحية "الشخصية الصالحة من سيشوان" The Good Person of Szechuan، تكافح البطلة شين تيه Shen The للحفاظ على طيبتها وأخلاقها وسط مجتمع فاسد واستغلالي حيث يسمح البناء المتقطع للمسرحية لبريخت بدراسة الفقر والأخلاق والرأسمالية من زوايا متعددة، مقدما جوانب اجتماعية مختلفة دون تقديم حلولا واضحة ونهائية لها. وبالمثل، تتوالى أحداث مسرحية "الأم الشجاعة وأبناؤها" Mother Courage and Her Children في سلسلة من المشاهد غير المترابطة، تمتد لسنوات من الحرب، مشددة على الطبيعة الدورية والمدمرة للصراع بدلا من التركيز على النمو الشخصي لشخصياتها. ويكاد كل مشهد أن يكون حكاية رمزية قائمة بذاتها، تدعو الجمهور إلى التأمل في كيفية تأثير القوى النظامية كالجشع والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي على السلوك البشري.

يتماشى هذا النهج المجزأ مع مفهوم بريخت "تأثير الاغتراب"، الذي يسعى إلى إبعاد المشاهدين عن الانغماس العاطفي ليتمكنوا من تبني منظور أكثر تحليلا. ومن خلال رفضه تقديم سرد سلس ومُرض عاطفيا، يجبر بريخت الجمهور على التساؤل حول الظروف الاجتماعية المصورة والتفكير في كيفية تغييرها. وبهذه الطريقة، لا يعد بناؤه التسلسلي مجرد خيار أسلوبي، بل خيارا سياسيا، مما يعزز إيمانه بأن المسرح يجب أن يثير الفكر ويلهم الفعل بدلا من مجرد الترفيه.
كما استخدم بريخت السرد كأداة لتشكيل تفسير الجمهور للأحداث، من خلال الأغاني، والمونولوجات، أو التعليقات التي تخرج عن العالم الخيالي. وتُبرز هذه المقاطعات السردية التناقضات في أفعال الشخصيات أو الأنظمة الاجتماعية، دافعة الجمهور إلى التفكير في قضايا السلطة وعدم المساواة. وبدلا من ترك الجمهور يضيع في صراعات الشخصيات الفردية، استخدم بريخت السرد لإعادة صياغة تلك الصراعات كأعراض لظروف تاريخية أو اقتصادية أوسع، مثل الرأسمالية والتفاوتات الاجتماعية والقمع الطبقي. ولتحقيق هذا الهدف، دمج أيضا نصا مكتوبا وإسقاطات مسرحية وهى أدوات كانت بمثابة تذكير مرئي بأن ما يشاهده الجمهور هو نقاش مركب وليس قصة مترابطة. ولقد عُرضت هذه العناصر، التي شملت عناوين المشاهد، والمراجع التاريخية، والحقائق الإحصائية، والشعارات الاستفزازية، على شاشات أو وُضعت بشكل واضح على خشبة المسرح، غالبا قبل بدء المشهد. وكان الغرض منها كسر إيقاع الأحداث وإضافة وقفات تأملية مقصودة، مما أجبر الجمهور على التراجع والتأمل ليس فقط فيما يحدث، بل أيضا في سبب حدوثه والقوى التي جعلته ممكنا. وقطعت هذه التقنية الزخم العاطفي واستبدلته بمسافة نقدية، والتي اعتقد بريخت أنها ضرورية لتنمية جمهور واعي سياسيا ومسؤول اجتماعيا.

ومن خلال الجمع بين التعليق السردي والإسقاطات النصية، حول بريخت خشبة المسرح إلى مساحة للتعلم والتساؤل، حيث تحول التركيز من التماهي العاطفي إلى التفسير الواعي للآثار السياسية والاجتماعية للمسرحية. ودمج بريخت نصوصا مكتوبة وإسقاطات مسرحية، مثل عناوين المشاهد والحقائق الإحصائية، كتذكير مرئي بأن العرض نقاش مركب وليس قصة مترابطة. هذه العناصر تُكسر إيقاع الأحداث وتضيف وقفات تأملية، مما يحول التركيز من التماهي العاطفي إلى التفسير السياسي والاجتماعي.

ومن التقنيات الرئيسية الأخرى التي استخدمها بريخت استخدام البنية المتسلسلة، حيث يتم ترتيب المشاهد بشكل مجزأ وغير خطي؛ فتقف كل حلقة على حدة بدلا من أن تتطور إلى ذروة عاطفية واحدة. وركزت هذه البنية على الظروف الاجتماعية التي تشكل الأحداث، بدلا من المصير الشخصي أو سيكولوجية الشخصية، ودعت الجمهور إلى استخلاص الروابط، ورصد الأنماط، والانخراط في النقد.

لقد صُممت جميع هذه التقنيات لتحقيق هدف مشترك: كسر سحر الوهم المسرحي، وكسر الاستهلاك السلبي، وتفعيل دور المتفرج كمفكر ومُسائل، وربما حتى كفاعل سياسي. وبالنسبة لبريخت، لم يكن المسرح مكانا للهروب من العالم، بل لمواجهته، وكانت هذه الأساليب أساسية في خلق شكل من أشكال الأداء قادر على فتح العقول وإلهام التغيير.

ومن هنا، يمكن القول بأن المسرح أصبح فضاء للصحوة الفكرية والسياسية على يدي بريخت، حيث يُعامل المشاهدون لا كمستهلكين للترفيه، بل كمواطنين قادرين على التفكير والعمل. لقد كان بريخت يؤمن بأن مواجهة المشاهدين لواقع الاستغلال والحرب وعدم المساواة والأيديولوجيا من خلال المسرح يمكن أن تساعدهم على رؤية العالم بشكل مختلف وتصور البدائل الممكنة. والفن، في نظر بريخت، لم يكن محايدا قط؛ بل كان شكلا من أشكال النضال، وساحة لإثارة الوعي وإلهام التغيير. وهكذا، لا يزال صدى أعماله يتردد حيثما آمن الفنانون والمفكرون بقدرة المسرح ليس فقط على تمثيل الواقع، بل على تغييره أيضا.

تأثير بريخت على المسرح المعاصر

لا يزال تأثير برتولت بريخت على المسرح المعاصر عميقا ومؤثرا حتى الآن، إذ لا تزال تقنياته المبتكرة ونهجه الأيديولوجي يشكلان كيفية تفاعل العروض المسرحية الحديثة مع القضايا الاجتماعية والسياسية. وقد أثر رفضه للدراما التقليدية الموجهة عاطفيا، لصالح المسرح النقدي المحفز للتفكير، على عدد لا يحصى من كتاب المسرح والمخرجين والفنانين.

وغالبا ما يتبنى المسرح المعاصر استراتيجيات بريختية - مثل كسر الجدار الرابع، وتوظيف الوسائط المتعددة، أو استخدام السرد القصصي المتسلسل - لتحدي الجمهور بدلا من مجرد ترفيهه. ومن خلال تعطيل الأبنية السردية التقليدية والتأكيد على الطبيعة المركبة للأداء، يحافظ صناع المسرح المعاصر على إرث بريخت حيا، ويضمنون أن يظل المسرح مساحة للتأمل والنقد والتحول الاجتماعي المحتمل.

ويُعد تأثير الاغتراب من أبرز إسهامات بريخت الخالدة، وهي تقنية مصممة لمنع الانخراط العاطفي السلبي وتحفيز التحليل النقدي بدلا من ذلك. وفي المسرح المعاصر، لا يزال هذا المبدأ قائما بأشكال مختلفة. فكثيرا ما يعطل المخرجون الوهم المسرحي بجعل الممثلين يخاطبون الجمهور مباشرة، أو يكشفون عن آليات المسرح، أو يدمجون الإسقاطات والوسائط المسجلة. وتُذكر هذه الأساليب المشاهدين بأنهم يشاهدون عرضا مصمما، لا واقعا مجردا. على سبيل المثال، قد تستخدم العروض ميكروفونات مرئية، أو تغييرات مفاجئة في المشاهد، أو سردا وثائقيا لإبعاد الجمهور عن الانغماس العاطفي. وبذلك، يتبعون اعتقاد بريخت بأن المسرح يجب أن يكشف آليات السلطة والأيديولوجيا والتكييف الاجتماعي بدلا من تعزيزها. ويتجلى هذا النهج بشكل خاص في الأعمال ذات التوجه السياسي التي تعالج قضايا مثل الرأسمالية والعنصرية وأزمة المناخ - مما يجبر الجمهور على إدراك المشاكل النظامية بدلا من الانغماس في الدراما الفردية.
كما أحدث بريخت ثورة في التمثيل من خلال تثبيط التماهي الكامل مع الشخصيات. وبدلا من ذلك، شجع المؤدين على إظهار أدوارهم، محافظين على مسافة نقدية تتيح للجمهور تحليل القوى الاجتماعية التي تشكل سلوك الشخصية. ولا تزال هذه التقنية مؤثرة في المسرح المعاصر، وخاصة في الأعمال التي تتحدى السرديات السائدة. فقد يتبنى الممثلون المعاصرون أسلوبا منفصلا، يكاد يكون تقريريا، فيعلقون على شخصياتهم بدلا من تجسيدها بالكامل. على سبيل المثال، في المسرحيات التي تتناول القمع أو الظلم، قد يخرج الممثلون عن أدوارهم ليتساءلوا عن قرارات شخصياتهم، مسلطين الضوء على كيفية تأثير الضغوط المجتمعية على أفعالهم. ويعزز هذا النهج حجة بريخت القائلة بأن السلوك البشري ليس فطريا، بل يتشكل بفعل الظروف التاريخية والاقتصادية. ويستخدم المسرح السياسي المعاصر، والدراما الوثائقية، وحتى بعض أشكال الأداء الغامر، هذه الطريقة لضمان بقاء الجمهور منخرطا فكريا بدلا من الانجراف عاطفيا.

ولقد ترك إصرار بريخت على ضرورة تفاعل المسرح مع السياسة أثرا لا يمحى على حركات الأداء المسرحي الحديثة حيث يستمد المسرح النسوي، والأداء الكويري queer، والدراما المناهضة للاستعمار، والنشاط المناخي، جميعها من مبادئ بريخت، مستخدمة المسرح كمنصة للمعارضة والتثقيف. على سبيل المثال، غالبا ما تستخدم المسرحيات التي تتناول عدم المساواة بين الجنسين أساليب بريخت مثل مخاطبة الجمهور مباشرة أو التجاور التاريخي لتسليط الضوء على التمييز الجنسي المنهجي بدلا من النضالات الفردية. وبالمثل، يستخدم مسرح الكوير والعروض المناهضة للعنصرية التفتيت والسخرية والإخراج المسرحي غير الطبيعي لكشف القمع كقضية بنيوية لا شخصية. كما يتبنى الفنانون الناشطون الذين يعملون على مواضيع مثل حقوق العمال أو العدالة المناخية أساليب بريخت، فيبدعون أعمالا تعليمية لكنها مبتكرة فنيا. علاوة على ذلك، لا تزال نظريات بريخت أساسية في تعليم المسرح، وخاصة في البرامج التي تركز على الدراما كأداة للتغيير الاجتماعي. ولا يزال إيمانه بأن الفن لا ينبغي أن يعكس العالم فحسب، بل أن يتدخل فيه، يلهم المبدعين المعاصرين الذين يرون في المسرح وسيلة للمقاومة والتغيير.

باختصار، تأثير بريخت واضح في مسرح اليوم، من العروض التجريبية إلى الدراما السياسية السائدة. وتضمن تقنياته سواء من خلال الاغتراب، أو التمثيل النقدي، أو المشاركة السياسية العلنية أن يظل المسرح مساحة هامة لطرح التساؤلات حول السلطة، وتحدي المعايير، وتخيل بدائل للوضع الراهن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى