الاثنين ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

مترجم التبغ

حين انطفأ ضوء الكهرباء للمرة الرابعة، مدّ حسن يده إلى علبة الثقاب. أشعل شمعة قصيرة، نصف مذابة، ووضعها فوق غلاف رواية الطاعون. لم تكن له رفوف للكتب؛ الكتب متناثرة في كل زاوية من الغرفة التي يحاول أن يخصّصها للقراءة والكتابة والترجمة، لكن قدمها وتعرّضها لتسرّب مياه الأمطار كان يحول دون ذلك. لذلك صارت تتحوّل إلى طاولات، أو وسائد يضعها تحت رأس ابنه الأصغر حين ينام على الأرض الباردة.

في زمن الحصار صار ثمن الخبز مكلفًا جدًا، بينما لم يملك حسن، المترجم، سوى أوراقه ومخطوطاته. إذ أعاده العوز إلى بدايات الحياة، فراح يلفّ أرخص أنواع التبغ بالطريقة القديمة، ويدخنه رغم أنه زاول بيع السجائر الجاهزة المرتفعة السعر، كأنما الحصار علّمه أن يحصي أنفاسه مثلما يحصي خبز يومه. هكذا مضى به الحال، أسوةً بأقرانه الأدباء الذين يتقدّمهم جيلًا.

زوجته "هدى" كانت تفرك رأسها كل مساء في حيرة وغيظ:

ــ "كيف لبيع السجائر أن يُشبع طفلين؟"

فيضحك ويجيبها:

ــ "كل سيجارة جملةٌ غير قابلة للنشر… لكنها قابلة للبيع."

نصب على الرصيف في سوق المدينة الشعبي "جنرًا" يصنعه النجارون على شكل مدرّج خشبي مجوّف من الداخل، محكم بجرّار صغير، يضع فيه رزم السجائر الجاهزة. لم يكن يدخن ليهرب، بل ليتذكّر. كل نَفَسٍ من لفافته كان مثل سطرٍ مترجم من ذاكرةٍ على وشك أن تُمحى.

عند العصر يغلق دفتر الترجمة، يشدّ حزام بنطاله الذي ارتخى مع أشهر الجوع، ويخرج نحو "مقهى رافد"، حيث يلتقي الناجون من الأدباء، ومن ينتظرون مصيرهم بصبر ودخان.

المقهى: كراسٍ مائلة، وطاولات مصابة بالخرف. جلس حسن إلى مكانه المعتاد تحت صورة السيّاب. وما أن أشعل سيجارته حتى هتف نائل، شاعر الحيّ المتمرّد:

ــ "أهلًا بمترجم التبغ… هل كتبت شيئًا برائحة هذا الدخان؟"

أجاب حسن بابتسامة مائلة:

ــ "أنا أترجم الرماد… لا أكتبه."

ضحك الجمع. ودخل كاتب شاب يحمل دفترًا مهترئًا، اقترب بخجل وقال:

ــ "أستاذ حسن… كتبت قصة عن شاعر يُمنع من النشر، فيبدأ ببيع السجائر."

حسن (ينفث دخانًا بطيئًا):

ــ "وماذا يحدث في النهاية؟"

قال الشاب:

ــ "ينسى أنه كان يكتب أصلًا."

تأمّله حسن طويلًا، كأن عينيه اصطادتا جملة داخلية وانطفأتا فجأة، ثم قال:

ــ "إذن، لم تكتب عن شاعر… بل عن خيبة."

قرأ الشاب قصته بصوتٍ مرتجف، بينما تحوّلت القهوة في الكؤوس إلى ماء بارد، إثر ما فعله من شدّ انتباه الأدباء الجالسين. وعندما انتهى، مدّ حسن يده، سحب قلمًا، وعلّق:

ــ "دعني أُترجم شعورك إلى عبارة. هنا، عند هذه الفقرة… قل إنك تحترق، لكن لا تبكِ من الدخان."

ثم ابتسم له بخفوت:

ــ "حين تكتب كما تتنفس، لا كما تُدرَّب… ستفهم."

عاد حسن عند منتصف الليل. الكهرباء ما تزال مقطوعة. زوجته نائمة، والطفلان بجوارها، على بُعد شمعة قصيرة توشك أن تعلن نهاية المصير. جلس وحده، لفّ سيجارة جديدة، فتح كتابًا قديمًا، وهمس لنفسه:

ــ "أنا لا أعيش من التبغ… أنا أقاوم به."

ونفث سطرًا من الدخان يشبه قصيدة لم يجرؤ على كتابتها بعد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى