الأربعاء ١٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم صافي صافي

مجتمع قعيد في رواية «أحلام القعيد سليم» لنافذ الرفاعي

لا أتفق مع المحللين الذين اعتبروا هذه الرواية اجتماعية، بما في ذلك الكاتب نفسه، فكل رواية لها بعد اجتماعي، وبعد سياسي وبعد فلسفي وغيره من المجالات، فالرواية حياة بكل تشعباتها، وهي بالتأكيد لا تتحدث فقط على أحلام رجل كسر عموده الفقري، ومحاولته تحقيق أحلامه الكبرى في تسلق شجرة الجميز، على طريقة الحيوان الثدي ذو المخالب الطويلة، سلاحه الوحيد “القرد الكسلان”، هذا الكائن الذي يتغذى فقط على أوراق النباتات، فلا يؤذي حيوانا ولا إنسانا إلا دفاعا عن نفسه.

إنها شجرة الجميز المعمرة، عميقة الجذور، بارتفاع المنابر القديمة، ما يزيد على العشرين مترا، مما يعني أن عمرها يزيد على الألفي عام. هذه الشجرة، دائمة الخضرة، التي تنمو ثمارها حتى على سيقانها، حلوة المذاق، فإن لم يأكلها الإنسان، أكلتها الطيور، وبعض الحيوانات، وحتى الديدان والحشرات.

يقوم سليم بتسلق شجرة الجميز، تلك الشجرة التي تسلقها من قبل “زكا العشار”، بل يعلوه بخطوات، والعشار، قصير القامة، هو الذي كان يعمل جابيا للضرائب أيام الامبراطورية الرومانية، الذي اعتبر خائنا، وسارقا لأموال الرعية. عندما مر السيد المسيح من هناك، قرر ملاقاته، فصعد الشجرة، وأعلن أنه سيتناول العشاء في منزله، وأعلن توبته، وأنضم لتلاميذ السيد المسيح بعد أن لاقي يهوذا الاسخريوطي حتفه، واصبح أسقف قيساريا.

سليم ليس مذنبا، بل هو نقي بهي، تعرض لكسر في عموده الفقري، وهو يعمل في مهنة البناء، سقط عليه السقف. سليم لم يكن مخطئا، ولا سارقا لأموال الناس، بل مكافحا لتوفير لقمة العيش لأسرته الفقيرة الموعزة. وها هو يعيد سيرة “زكا العشار”، في المكان نفسه تقريبا الذي مر به السيد المسيح، في كنيسة يصعب دخولها وتسلق شجرتها، وهو بذلك يقترب من السماء بعيدا بعيدا في خطوات بطيئة في عددها ثلاث وعشرين، وأكثر قليلا، بعدد أزواج كروموسومات الإنسان.

سليم البناء، على خطى والده، الخطاط، المبدع، الشغوف بالموسيقى، بالصوت الجبلي، العاشق لحزن الناي أولا، والمنبهر بالكمان، والمحب الولهان، والمبدع بصنع السرير المتحرك، والمقلد لعباس بن فرناس في الطيران، والمصمم على السباحة، والفارس الخيال. لم تكن رحلة سليم سهلة، فكل خطوة هي جهد، وكل خطوة تعادل خمسين عاما، تحبس الأنفاس، خطوات بعدد الفصول: خطواته الثلاث الأولى، والرابعة، والخامسة، ...، ويكسر الرتم عند الخطوة الثامنة، والتزحلق خطوة وعودة للتاسعة، (وصل خطوه الثامن)، ومجددا الخطوة العاشرة، والخطوة الحادية عشر، ... والخطوة الثالثة ما بعد والعشرين، يفصلها فنيا بالعائدة، واللقاء، وعواطف والراوي، والمخرور والقعيد والمغامرة، وينهيها بنصف خطوة.

إننا لسنا أمام قعيد واحد هو سليم، فسليم مقعد حركيا، لكنه المتمرد الذي لم يقبل الانتحار، فعبث الحياة تفرض عليه الاختيار، واختياراته تفوق قدراته، وفق فلسفة الديناميكا اللولبية حيث يحاول التفوق على ذاته، مرحلة وراء أخرى ليصل العلى والسمو. إن كل الشخصيات الواردة في الرواية هي مقعدة بشكل آو بآخر، فهو جزء من أسرة تتكون من تسع أخوات وولدين، بالإضافة للوالد والوالدة. سامي، أخوه الأصغر، شخصت عيناه، وهلوس بكلمات غير مفهومة، وامتنع عن الكلام، ثم انطوى على نفسه، عانى من وجع المسؤولية والعجز والاكتئاب، والانهيار العصبي، وأدخل مستشفى المجانين، فسفروه إلى الأكوادور، عاش في بيت خالته، ليتزوج ابنتها. والده هو البناء الذي تتلمذ سليم على يديه، وهو المخمور في الحانات هربا من وضع عائلته الصعب. أما أمه فهي تحمل هموم الكون كله، وهموم كل فرد من أسرتها.

صديقه الفضوي، يعشق السهر وينام متأخرا، العاقر، يتبنى وزوجته طفلة بطريقة مواربة، لكن زوجته تحمل أخيرا (من الله). طبيب الأعصاب المريض المقيم في المستشفى، ويستعين به الأطباء. رواد المشفى: أحدهم طبيب، والثاني من الأوائل في الجامعة، انهار في السنة الرابعة، والثالث أصيب بلوثة حب عندما زوجوا حبيبته من رجل آخر، فقام بطعنها، أما الرابع فقد أفلس بعدما كان من أصحاب الشركات التجارية. عواطف هي عشيقة سليم، جاء مغترب من أقاربها، يسكن خلف المحيط، أعجبت بأناقته وسيجاره الفخم، فتزوجها، وعاملها بقسوة، كخادمة، فهو زير نساء، ويسجنها في بيته، تفقد أباها في الوطن دون أن تدري. تقرر الهرب، والعودة إلى الوطن، فتعود لسليم مقعدا وثائرا.

أمل هي الوحيدة العاقلة التي تساعد الجميع، شبه أمه، تعلم معها في الكتب المدرسية، ليعوض ما نقصه، طفلته المدللة. علمها البناء، ابنته التي لم ينجبها، مشروع حياته، حتى أنه لم يوافق على زيجتها، تعلمت في معهد، وعملت في بيت كفيفات، وشاركت في الندوات الثقافية، كأنها هو.

نعم، لقد قرأت الرواية مرتين، لأدرك كم هي الحياة جميلة، ولأعرف أن سليم خرج من جلده، فتسامت روحه وعلت، ورممت نفسها، وانطلقت في دوائر زمبركية نحو العلى.

سليم ليس هو المقعد الوحيد، رغم التركيز عليه، كلهم مقعدون، مجتمع بكامله، فلم نر شخصية واحدة كاملة، وليس هناك كمال في أوصاف الشخصيات. من هنا تبدأ الرواية كما أعتقد. الاعتراف بالقعود، حتى يتجاوز المحنة، الأزمة، الحالة المرضية، ليقوم. الاعتراف بالمرض هو البداية، ثم التحدي. المرض يمنع سليم وغيره من حوله للنهوض، لكن سليم يقرر أن ينهض خطوة وراء أخرى، وإن تراجع مرة، يعود فيكمل المشوار. خطواته قصيرة، وبطيئة، مثل “القرد الكسلان”، لكن إرادته صلبة، يعتمد أولا على ما في داخله، وثانيا على يديه القوتين، ومخالبه الطويلة. المشوار طويل يحتاج ما يزيد على عشرين خطوة، وكل خطوة بمئة مما تعدون، لعبور السنين التي فاتت والسنين التي ستأتي. يبدأ الصعود من العقل، من القدرة على اتخاذ القرار، فاتخاذ القرار هو الذي يحدد الكينونة، والكائن بقراراته حتى في أشد الظروف قسوة.

كلنا معاقون، ليس بخاطرنا، وإنما لظروف خارجية، ولظروفنا الداخلية، ولقراراتنا السابقة، وعلينا أن نتحمل المسؤولية، ونفض شرنقة الإعاقة، والانطلاق إلى العلى. سليم المعاق هو مثال للانطلاق، وفعل مثله صديقه واخته وعواطف وغيرهم.
الخطوات ما فوق العشرين، ليست فقط حركة، وإنما تركيز، وتأمل، وتذكر، ورسم مستقبل يعيه المعاق جيدا، بل يقرر أن يصله.

هل يجوز اعتبار مجتمعنا معاقا؟
هل الاعتراف بواقعنا هو نقطة الإنطلاق؟
هل لدينا التصميم للخروج من وضعنا السيء؟
هل سليم هو القدوة؟ وهل السلامة هي نفسية أم حركية؟
هل وضع خطة للنهوض تشكل منارة للمجتمع؟
هل يشكل الحب حافزا وشغفا لمواصلة المشوار؟
هل الخطوات البسيطة هي البديل للنهضة والخلاص من الحالة السيئة؟
كلها أسئلة بحاجة لإجابات
عدا عن أسئلة فنية ولغوية أخرى، ستظل مطروحة في سياق الرواية وما بعدها


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى