السبت ٢٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم ميادة مهنا سليمان

مُذْ ضاعَ مِنَّا المُفتاحُ

ذاكرتي حُبلى بكِ
يؤلمُني مخاضُ الحنين
أهزُّ جذعَ نخلةِ الاشتياق
فتُساقطُ علَيَّ رُطَبُ الصَّبرِ
لألِدَ ذكرياتيَ المُعتَّقةِ في خوابي الرُّوحِ
أشربُ كأسَ الوجد
أنتشي بِلذعةِ الحُزنِ
يا قُدْسُ!
حتَّامَ تمثُلينَ أمامَ القلب
فيقفُ عاجزًا عن مدِّ يدَي النَّبضِ للعِناق
حتَّامَ تمثُلينَ أمامَ الرُّوحِ
فتركضُ إليكِ عرجاءَ اللهفةِ
رُبَّما طلقةُ حقيقةٍ طائشةٍ
أردَتْ أُمنياتي قتيلةَ الأمل
هُنا في وطني كُلُّ الدُّروبِ
تُوصلُ إلى القهر
خائبةٌ كُلُّ خطواتِ الحالمين
مسدودةٌ كُلُّ طرقاتِ الفرج
نتسكَّعُ في دروبِ الضَّياعِ
مُتوكِّئينَ عصَا الآلامِ
نُجرجرُ صخرةَ سيزيفَ*1
فيهزأُ بنا جبلُ الصُّمود
نمشي بِلا عناوين
نسافرُ بحقائبَ مهترئة!
لا وجوهَ لنا..
لا حاضرَ..
تُؤوينا غاباتُ الوجع
فيطيرُ ألفُ غرابٍ من أمامِ أعيُنِنا
ينعقُ هازئًا بنا
فنحنُ الأمَّةُ الَّتي لا تعرفُ
كيفَ تُواري سوءَةَ الهزائمِ
نستظلُّ بِفيءِ الأمجادِ
فتنهشُ الذِّئابُ أحلامَنا
نتلوَّى صُمودًّا
نلفُّ جراحَنا بأضمدةِ الشَّجن
ونأخذُ حبَّةَ مُسكِّنٍ للوجد
نجترُّ خيباتِنا كُلَّ صباحٍ
ونعُدُّ قطيعَ دمعاتِنا كُلَّ مساءٍ
نحنُ الَّذينَ لا ننامُ
على أغنياتِ الحُبِّ
نحنُ الَّذينَ نغفو على لحنِ المآسي
فنرى أحلامًا قانيةً!
تتأوَّهُ وسائدُنا
فنصحو لتصفَعنا شمسُ الصَّباحِ:
" لا يحقُّ للبائسينَ أنْ يحلُموا"
فكُلُّ شيءٍ في وطنِ الخذلانِ
مقموعٌ
وكُلُّ شيءٍ في وطنِ الحرمانِ
ممنوعٌ
حتَّامَ تقعونَ في حُفرِ الأملِ
ألمْ يئِنْ لأقنعةِ الخِزيِ أنْ تسقطَ
ألمْ يئِنْ لكوفيَّاتِ العارِ أنْ تُخلعَ
ألمْ يئِنْ لنفطِ العُروبةِ
أنْ يُشعلَ فينا دفءَ التَّحدِّي؟
حتَّامَ نظلُّ لاجئينَ على أرصفةِ الذُّلِّ
وفي خيامِ البؤسِ؟
هلْ مِن نايٍ يُفتِّقُ فينا الحنينَ
لذاكرةٍ لمْ تنزعْ
ثوبَ الحدادِ مُذْ ضاعَ مِنَّا المفتاحُ؟
آهٍ يا غسَّانُ*!2
أقرأ كتابَكَ (رجالٌ في الشَّمسِ)
أحِنُّ إلى "أُمِّ سعدٍ"
و"خيمةٌ عنْ خيمةٍ تختلفُ"
وهناكَ على رفوفِ مكتبتي
يبكي كتابُكَ (رِجالٌ وبنادقٌ)
أسمعُ أوراقَهُ تتساءلُ
أينَ الرِّجالُ
وأينَ البنادقُ؟
فأرقصُ وجعًا على أنغامِ الانكسار
يُفتِّتُ الحنينُ قلبي!
أعيدوني إلى جُذوري
إلى بيَّاراتِ البرتقالِ
إلى باحةِ الأقصى
إلى حارةٍ جُدرانُها تهرَّأتْ منَ الرَّصاصِ
أعيدوني إلى حضنِ أُمِّي
فمُذْ رأيتُها نازفةً
وأنا أذرفُ نبضَ قلبي
بِأيِّ ذنبٍ قُتِلتْ؟
بِأيِّ ذنبٍ أحِنُّ إلى أبي؟
فتُجيبُني سجونُكم:
أبوكِ مُهشَّمُ الذَّاكرةِ..
مُدمَّى الوجهِ..
بِلا أسنانٍ..
بِلا أظافرَ..
بِلا.. بِلا.. بِلا..!
قُولوا ما شِئتُم
لكنْ مُحالٌ أنْ تقولوا:
أبي بِلا شرفٍ!
ستقطعونَ جُذورَ أفراحِنا
لكنْ.. هيهاتَ.. هيهاتَ
تجتثُّونَ مِنَّا جُذورَ صُمودِنا
أنا أسمعُ صوتَ أبي
وأخي.. وأُمِّي
أسمعُ صَوتَ القُدسِ وهيَ تصرُخُ:
واعُروباهُ!
لكِنِ الجميعُ آذانُهم مِن طينٍ!
قتلتُم أخي
لكنَّهُ هُناكَ نجمٌ في سماءِ الأملِ
أسرتُم أبي
لكنَّهُ تاجُ عِزَّةٍ على رأِس الوفاءِ
نزعتُم حِجابَ أُمِّي
لكنَّها بَتوليَّةُ الرُّوح
أنا مازلتُ أسمعُها..
الأُمَّهاتُ لا يمُتْنَ!
الأُمَّهاتُ يُغنِّينَ لِأولادِهِنَّ..
ها أنَذا أسمعُ أُمِّي تُنادي أخي:
"آخ يمَّا كُنت تغنِّي:
زغرِدْ ياهالرَّشَّاش وصحِّي هالنَّايمين
وقلهُم بِدون الدَّم مَ بترجع فلسطين"
سنزغردُ يومًا يا أُمِّي
ونشعلُ قناديلَ الفرحِ
في أرضِ السَّلامِ
وستطيُر الحمائمُ في زهرةِ المدائنِ
وستُخلَّدُ حِجارتُنا في مُتحفِ الكرامةِ
وسأظلُّ أسمعكِ يا أُمِّي
وأسمعُ صوتَ الرَّشَّاشِ
حتَّى أُمسِكَ مُفتاحَ القُدسِ بِيدِي!

*1سيزيف: خدعَ إلهَ الموت ناثاتوس، فحكمَ عليه بصخرةٍ يُجرجرها، ويرفعها إلى جبلٍ مدى الحياة.

*2غسّان: الكاتب الفلسطينيّ غسَّان كنفاني.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى