هي أمي… وإن قست
لم تكن سَحَر، ابنةُ الأعوام العشرة، سوى زهرةٍ نَدِيّة زرعها القدر في تربةٍ أكثر قسوة مما تحتمله جذور طفولة غضّة.
كانت البكر في أسرةٍ ينخر العوز عظامها، خمسة إخوة يتوزّعون في الغرفة الضيقة كطيور تبحث عن متّسعٍ لجناحيها، وأبوان ما زال في وجهيهما أثر الصِبا، غير أنّ الفقر بسط يده الثقيلة على أعمارهم فهرمت قبل أوانها.
يخرج الأب كل صباح كمن يجرّ جسده لا كمن يستصحبه، يمضي إلى عملٍ لا نهاية له، إلى تعب يتشبّث بكاهله منذ الفجر حتى آخر الليل.
أمّا الأم فأسيرة بيتٍ من أربعة جدران رطبة وواجبات تتناسل كالأمواج… لا تهدأ ولا تُمهِل.
البيت القديم الذي يضم خمس عائلات كان يموج بصخب الأطفال كلما أشرقت الشمس، حتى إذا دوّى صوت الخالة حكيمة ـ تلك التي تتصدّر سلّم السلطة في السكن ـ خفتت الضوضاء وتوارى الركض، كأنّ صرامتها عصا خفيّة يلوّح بها الهواء فيرتجف.
وسط هذا العالم، نشأت سحر.
طفلةٌ لها توقٌ فطري للعب ولضحكات تشبه بنات سنّها، غير أنّ وقتها يُنتزع منها انتزاعاً.
فما تمنحه الحياة لها من فسحات صغيرة، تأخذه الواجبات المنزلية المضاعفة.
صباحها للمدرسة، وظهيرتها لرعاية إخوتها، ومساءها ساحة مفتوحة لطقوس لا تنقضي:
غسل الصحون حتى تَحمَرّ أصابعها من رغوة الصابون؛ ترتيب الغرفة التي تضيق كصدرٍ يُخفي في داخله أنفاس ساكنيه؛ فرش أغطيةً تشبه محاولاتٍ خجولة لترتيب فوضى أيامهم؛ ثم تتجه إلى طشت الملابس تغسلها بصبرٍ لا يُطلب من طفلة، لتعلّقها اخيرًا على حبلٍ متهالك ينوء بكل ما تُلقي عليه.
وحين يحل الليل، تنهمك في إعداد اخوتها للنوم، ثم تجلس قرب باب الغرفة، تراجع كتبها وهي ترقب وقع خطوات الأب في الممر الطويل. وإذا ما أطلّ بظله، بادرت للوقوف، تقدّم له العشاء بابتسامة واهنة تحجب جبلاً من التعب، وتُخفي في قلبها رغبة في أن يسألها أحد:
هل أنتِ بخير؟
كانت الأم، على سذاجة محبتها أو عمى إرهاقها، عاجزة عن رؤية ما يتساقط من ابنتها كل يوم. تُحمّل سحر ما يفوق طاقة طفولتها، كأنها وُلدت لتسدّ الثقوب التي يُحدثها الفقر وتراكم المسؤوليات.
لم تسألها يوماً عن دميةٍ تشتاق لاحتضانها، ولا عن لونٍ تُحب أن ترسم به عالمها، ولا عن رغبة وحيدة تخصّها وحدها.
كلّ ما تراه في البنت البكر هو امتداد طبيعي ليدها، لا قلب ينبض بأمنيات صغيرة.
كانت سحر تسبق عمرها بخطواتٍ واهنة، تتعلّم منذ باكورة طفولتها أنّ الحياة لا تمنح امثالها مساحة للّعب، وأن عليها أن تتسع لكل ما يُطلب منها، حتى لو بدا قلبها الصغير كوعاء يُعاد ملؤه رغم امتلائه.
وجاء يوم توزيع النتائج.
يومٌ ينتفض فيه أغلب الأطفال فرحاً، يلوّحون بأوراقهم كأجنحةٍ صغيرة تستعد لرحلة العطلة الصيفية، غير آبهين برقمٍ يزيد أو ينقص.
لكن سحر خرجت من باب المدرسة كغيمة مثقلة، تخبّئ ورقة نتيجتها في حقيبتها كما لو كانت تخفي جرحاً. لم تخذلها مادة الرياضيات فقط، بل خذلها الخوف الذي تربّى في داخلها من صراخ الأم، ومن تلك العصا التي طالما خلفت بصماتها على جسدها لأخطاء لم تقترفها.
عاد شريط الذاكرة يلمع أمام عينيها:
هفوات يرتكبها إخوتها الصغار، يشعل غضبًا في قلب الأم، وذراعًا يطال الجميع بالعقاب… وفي النهاية، تسقط الخيبة على كتفي سحر وحدها، فهي البكر، وهي "المسؤولة" في عرف أم أنهكها السؤال أكثر مما أنهكها الجواب.
فكيف ستواجه اليوم عاصفة الأم، وهي تعلم أنّ "فخرها" الوحيد، كما كانت تقول لجاراتها، قد تعثّر؟ كيف ستحتمل أن ترى الخيبة ترتسم على وجه أمٍ طالما أرادتها مثاليةً في كل شيء؟
مسحت سحر دموعها بطرف كمٍّ بالٍ، كأنها تمحو أثر قلبٍ يرتجف، وتمنت لو ان خوفها يُدفن عند سور المدرسة.. تمنّت لو أنها تستطيع إخفاء ورقة الدرجات في حقيبة لا تعرفها الأم، ولا تصلها يدها، لكن الحقيقة كانت تنتظرها بجلاء لا يرحم.
عند عتبة البيت، شعرت بأن الأرض تضيق تحت قدمَيها.
الأم واقفة في الباحة، ذراعها على خاصرتها، وعيون تتّقد أسئلة.
توقّفت سحر كغصنٍ يضطرب في مهب ريح. ارتجفت الورقة في يدها كما ارتجف قلبها، والدموع تدفقت قبل أن تنطق بأي كلمة.
قرأت الأم الفشل في الملامح قبل الورقة. وفي لحظة كأنها مفصّلة للوجع، امتدت يدها خلف الباب إلى العصا المعلّقة، كأنها جزء من طقوس البيت.
نادت سحر بصوت غاضب هزّ أرجاء المكان، فتجمّع الجيران خلف الأبواب، صامتين، يعرفون أنّ غضب الأم عاصفة لا تهدأ إلا بعد أن تخلّف وراءها كسراً.
لم تنتظر سحر أن تُضرب.
بحدسٍ فطري ينقذ المخلوقات المهدّدة، ألقت حقيبتها أرضاً، وانفلتت من يدها ورقة النتيجة كطائرٍ يفرّ في اللحظة الأخيرة، وخلعت حذاءها من عجل، ثم انطلقت تركض خارج الدار…
تركض كغزالة يطاردها خوفٌ أشد من الصياد.
كانت شمس حزيران تلهب الطرقات، والهواء ساخناً كأنّه يتآمر عليها.
سالت دموعها واختلطت بعرقها، وتحوّلت الطرقات الحارقة تحت قدميها الحافيتين إلى ألسنة نار تلسع جلدها الرقيق، لكنها لم تتوقف.
كانت غريزة الهرب أقوى من كل شيء.
لمّا أبصرت من بعيد عباءة الأم السوداء تجوب الأزقة باحثة عنها، توارت بين الجدران المتلاصقة، ممرات ضيقة تشبه أنفاسها المتقطّعة.
ركضت حتى خارت قواها، ثم سقطت عند عتبة بيتٍ غريب، فضمّت ركبتيها إلى صدرها ككرة خوفٍ ترتجف.
راحت تقرض أظافرها بعصبية، وعيناها معلّقتان بالسماء، تهمس:
"يا رب… ارحمني...
خفّف عن أمي… وخفّف عني"
لا أحد فتح الباب. ربما سمعوا حركة، وربما تجاهلوها. تُركت وحيدةً مع حرّ النهار وقلبٍ صغير يختزن من الهلع ما يفوق حجمه.
مرّت الساعات ثقيلة كالجرح.
مع اقتراب الغروب، خارت قواها، وصارت اعضاءها تئنّ جوعاً وعطشاً. مسحت وجهها بكُمٍّ مبلل من دموعٍ لا تنتهي، ووقفت.
بدا جسدها كغصن هشّ يقف في مواجهة ريح أكبر منه، لكنها وقفت. ثم هزّت ثوبها، كمن ينفض غبار الهروب لا رداءه فقط.
عرفت، رغم صِغَرها، أن الدرب الوحيد للأمان هو العودة.
فالخوف مهما اتّسع، لا يبتلع حبّاً يجري في الدم.
وأنّ سقف البيت، مهما اشتدّ وطؤه، أرحم من شارع لا يحفظ طفلة.
عادت بخطى بطيئة، تطفئ ظلال النهار القاسي خلفها، وهمست لقلبها المرتجف:
"هي أمي… وإن قست."
ولعلّ الليل، حين يهبط على البيت، يجمع من هداوته رحمةً تُلين قلب أمي، فيهمس في أذنها بما عجز لساني الصغير عن قوله، فتغفر لي عثرتي الصغيرة...،
ويوقظ فيها رفقاً يرفع عني خوف النهار.
