الأربعاء ١٨ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم سامية إدريس

أطيار النور

ذات مرة سئل الكاتب المسرحي الشهير برخت عن سر إعراضه عن الكتابة للأطفال فرد بأنه " لم ينضج بعد ". وفي هذه الحكمة خلاصة بليغة لما يجب أن يتوفر عليه من يكتب للأطفال من رؤية نفاذة نحو عوالمهم الشفيفة وما ينجر عن ذلك من مسؤولية تتضاعف أمام هذه الصفحات البيضاء المرهفة، التي يفترض أن تجند لها ترسانة من الأدوات المعرفية والجمالية والفنية. لعل أبرزها قوة الخيال كشرط من شروط الإبداع لكن مساحته تتسع بالنسبة للطفل لأنه عالمه الأول الملئ بالحركة والحيوية والإبهار والتحفيز ومداعبة شغاف روحه المتوثبة والمحلقة نحو آفاق بعيدة من أجل تحقيق الفائدة و المتعة الجمالية والسمو.

وانطلاقا من الفكرة القائلة بأن الطفل فيلسوف صغير فإن على الكاتب أن يضع نصب عينيه بحرا من الاعتبارات النفسية والفكرية والإبداعية وحتى المرجعيات التاريخية والدينية، ليلفت انتباه هذا الفيلسوف الذي ليس من السهل خداعه وإقناع سمعه وبصره وقلبه وعقله المفتوح والذي بلا شك يملك مشروعه الخاص ورؤيته وفكره المستقل بعيدا عن التسلط الذي يمارسه الكبار الراشدون .

وإذا عدنا إلى واقع الطفل الجزائري فإننا سنجده محروما من هذه المتع الأدبية؛ إذ أن ما يخصص للطفل ضئيل جدا اللهم بعض المحاولات الفردية من هنا وهناك؛ فلا الأدباء أولوه عنايتهم ــ لاعتبارات كثيرة ــ ولا الأسرة فهمت أن الكتاب هو المعلم الأول، فوضعته ضمن أولوياتها رفقة الخبز، ولا المجتمع ــ بجمعياته الكثيرة ــ أدرك الخطر المحدق ونظر بعين الجدية إلى الكارثة التي تهدد أطفالنا ذخيرة الغد. ولا وزارة التربية انتهجت سياسة تعليمية ناجعة جعلت فيها المطالعة أهم أنشطتها. باختصار شديد الكل متكاتف في هذا الإهمال والتقصير واللامبالاة.

وهكذا تركنا أطفالنا يواجهون ــ لوحدهم وبدون حماية أو أسلحة ــ الفراغ الرهيب الذي تملأه الرسوم المتحركة وهي حامل ممتاز للقيم الثقافية والاجتماعية والأخلاقية الأمريكية والأوروبية والآسيوية. ودوما المشكلة نفسها العربي صغيرا أو كبيرا يقف يتيما ليستهلك وينبهر فقط.

و ضمن سياق المبادرات الفردية تندرج المجموعة الشعرية الموسومة بـ : " أطيار النور" : أدب الطفولة والفتوة ، لصاحبها الأستاذ الشاعر عبد العزيز بوجدع؛ إذ ومن خلال سبعة عشر نصا شعريا (17) أغلبها من الشعر العمودي انبثقت الأناشيد الرقيقة المعبرة في تنوع وثراء يربطها خيط رفيع هو الحب بكل طاقاته وأطيافه؛ حب الله،حب الخير، حب الوطن والطبيعة. تلك هي الموضوعات التي تناولتها المجموعة الشعرية، بإيقاعات موسيقية متفاوتة سريعة حينا ومتدفقة حينا ومتأنية أحيانا أخرى .

النص الأول في المجموعة بعنوان " اقرأ " وكما نلاحظ فهو يحمل دلالة وإيحاء خاصا ليس فقط من حيث الرسالة والهدف والحث على فكرة القراءة المرادفة للعلم وإنما في استيحاء الصورة الدينية والتاريخية واسترجاع لحظة نزول الوحي. إنها لحظة كثيفة وشفافة تدفع فعلا نحو فتح أفق آخر ذلك أن العلم| القراءة، هو فتح لأبواب ونوافذ وآفاق. لهذا جاء النص الأول بمثابة فاتحة ومفتاح. يقول :

ألا اقرأ كما أمر الكتاب
وشد عزا تخر له الرقاب
فكل الكون لله مجيــــب
بأمر الله أمطرنا السحاب
ألا فاقرأ فإن الدرس كنز
وكنز العلم يبلغه ال
خذ الأفكار من أفواه قوم
جرت بالعلم فالعلم اكتساب.

أما في باب الوطنيات فنقرأ مثلا " صرخة فلسطين ــ وطني ــ تراب القدس ــ فارس فلسطين"
إذ يرسم الشاعر الجمال والحب، كما يرصد معاني الفقد والتوق إلى الحرية والرغبة في التضحية والاستشهاد لأجله. تأمل مثلا هذا المقطع من " فارس فلسطين " المستوحى من قصة حقيقية ومن يوميات أطفال فلسطين . وقد اختار له الشاعر شعر التفعيلة ليلائم الطابع السردي الذي جاء به النص ويقص الحكاية حكاية فارس :

فاق سن العاشرة
حينما أدرك أمرا
فهوى القدس وأبدى
حبه للنــــــــاصرة
لم يكن ( فارس ) يلهو
لم يكن يجمع زهــــرا.

يسعى الشاعر دوما إلى ربط الطفل بأمته وجذوره وقيمه، فيهديه قصيدة " مدينة الله " ويسقيه من جنان التاريخ من عطر مكة ونورها (محمد صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه مازجا ذلك بالأحداث التاريخية التي شهدتها المدينة المقدسة.

وقد شغل شعر الطبيعة الحيز الأكبر وهو عالم الطفل الأول بامتياز، إذ تنوعت النصوص في هذا القسم بين العناوين التالية " كدح الصبح ــ أفراح الصيف ــ الليل ــ الغابة ــ جمال الريف ــ جمال الصحراء ــ معزوفة الريح ــ الشجرة ــ جمال القمر" ( وهنا تستوقفني فكرة استوحيتها من مقالة لأمبرتو إيكو في أن الأطفال في العالم المعاصرة يعيشون في طبيعة اصطناعية لأنهم بالكاد يعرفون الطبيعة الحقيقية بأعشابها وحيواناتها وصخورها )؛ لذلك يمكن القول إن هذه النصوص هي انتصار للطبيعة التي تنتهك يوميا من طرف الإنسان. يقول في نص " نشيد الغابة"

في الغابة رونق موفـــور
فكأن صنوبرها حـــــور
صدحت بحفيفها أغصنها
فتراقص فـوقها عصفور
وأريجها أيقظ أفئــــــــدة
فكأنها عاشق مسحـــــور.

وعندما نعود للقصيدة التي حمل الديوان اسمها " أطيار النور " فإننا نجدها زاخرة بالإشارات الطفولية ؛ فيها دعوة للانطلاق والفرح معانقة الحرية ؛ فيها دعوة للتأمل في جمال الكون وحب الحياة والطبيعة. وقد زادها وزن المتدارك خفة وتسارعا وتناغما :

أطيار نحن ومن ألــــــق
نتفهم وسوسة الشفــــــق
ونداعب فجرنا في مرح
ونسامر عسعسة الغســـق
قد أفرح شدونا منكــسرا
فترنح منتشي الرمــــــق .

ما يمكن الإشارة إليه في هذه المجموعة الشعرية، أن لغة القصائد والأناشيد صافية فصيحة وذات روح تراثية في أسلوبهاولفظها. بل إن بعض ألفاظها فيه شيئ من الصعوبة ، وذلك الأمر مقصود من الشاعر، إذ أنه لجأ إلى تسجيل إضاءة تحت كل نص يشرح فيها تلك الصعوبات اللغوية ويذللها بل إنه يهدي الأطفال مفاتيح للبحث في القاموس والاستئناس بهذا الرفيق الطيب المعطاء والتعامل معه ، وفي ذلك تحفيز وفتح لعوالم مغلقةبالاعتماد على النفس والثقة فيها لبلوغ الحقيقة وهو درس قيم في حد ذاته.

نقطة أخرى أود إضافتها وتتمثل في تلحين هذه القصائد وتحويلها إلى أناشيد يترنم بها الأطفال بدلا من استيراد ترانيم من هنا ومن هناك و بلهجات مختلفة ــ كما هو حاصل مع أطفالنا ــ لتسير على الألسن وتنفذ إلى القلوب والعقول فتكون فائدتها أعظم وأعم للصغار وللأمهات والآباء والمعلمين. ونحن نرى ما يتقاذفهم من فراغ فكري وفني، في هذه السن التي تتسع لكل شئ .

إن حاجتنا إلى أدب الطفل ( شعرــ قصة ــ مسرح ــ غناء ...) ماسة وملحة. وقد جاءت هذه المجموعة لا أقول لتسد فراغا، لأن ذلك أكبر بكثير من جهد فردي، وإنما أقول لتلفت لحضور الطفل الكثيف في الحياة وللتفكير في وضعه ومصيره في عالم طافح بالأفكار المختلفة البقاء فيه للأقوى والأبدع. بل للتفكير في الغد ورهاناته، لأن الاستثمار الحقيقي يكمن في الإنسان. وكل طفل مشروع إنسان وبرنامج حياة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى