الأربعاء ٢٧ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم سامية إدريس

التهمة

علي أن أعلن الآن، إذ لم يعد الكتمان غير دثار مثقوب أختبئ خلفه، حسنا سأعلن وفي الوقت ذاته أقصد الوقت بدل الضائع ــ سأضحك أمام العبارة المسيجة بالكذب: هل هناك حقا وقت بدل ضائع، دائما أكاذيب الإعلام، لا أدري لم لا يجرؤون على القول مثلا العمر بدل الضائع، مغفل، كيف نسيت بهذه العجالة، طبعا يجوز لبعض العباقرة أن يعيشوا عمرا بدل ضائع ليمارسوا بشغف هوايات صغيرة من هذا القبيل على غرار ما فعل غريمك العجوز، فيما أنت تتأوه في أوار المحنة، اللعنة، لقد فعلها العجوز، تفوه،بخطاه المتعثرة اقتاد البنت إلى سريره الملغوم بالشخير وأنفاس الموت، وماذا فعلت أنت؟ جبان لا تجرؤ على الإعلان، فقط بدأت تنسف رماد الذكريات تستجدي الجمر النائم تحتها، فيما قلبك مفتوح على المدى المضرج بالجراح والطعنات، والصبية تلك التي كانت ذات يوم موعودة لقلبك تتأوه على فراش من ألغام، كنت تسمع بوضوح صرخاتها مع هبات الليل، نداءاتها الحارة هاتفة باسمك: فؤاد، فؤاد. لا تنكر، رحت تنصت فيما عيناك تنزفان، ومن هنا سال نهر الشعر على لسانك (طبعا لم يحدث الأمر بكل هذه البساطة، لقد تجاوزنا عن وصف العقد التي استحكمت في الصدر والتنهدات الليلية ناهيك عن مرارات الطعام والشراب، ولسنا هنا لنبسط صورة الألم تلك التي لم ينج من مخالبها غير قلة من الشعراء). تدفق بعد أن كان خيطا فضيا رفيعا لا يحنو عليك إلا في موسم الشتاء، أستغفر الله، بيت القصيد ليس هنا، بعض المواجع تنز من تحت جلودنا وتمتزج رغما عنا برائحة أجسادنا، لهذا تتمظهر مع أي فكرة نريد التعبير عنها، تطفو قاهرة كل رؤية أخرى. لا بأس، اعذروني فالتشويش لا مفر منه يحتل مساحة معتبرة في ذاكرتي الموقرة. لهذا سأعلن بحياد من تعايش مع المرايا السوداء وصم أذنيه عن نداءات الليل الممزقة، سأقول ودون التفات لتلك الصرخات التي بدورها مرنتني على كل شئ: السياط واللعنات وتفاصيل أخرى تمنعني من ذكرها حاستي الإنسانية، إذن: أنا خلف القضبان.لا شك أن العبارة مفتوحة على أشواك الإذلال والإهانة، إنني داخل القفص، ثمة احتمالات لطيفة في هذا التعبير؛ القفص الذهبي ثم الزجاجي والحديدي، قفص العصافير أم الكلاب أم القطط. المفارقة لا تكمن في كوني فقدت حريتي أي حياتي فحسب، ولكن أيضا في هذا التجمهر الغريب الذي أفتح عيني عليه عند كل شروق، لا أدري كيف أعبر عن الفكرة، إذ لا يعقل مهما أوتيت من أسباب البلاغة أن أقول إن القضبان الصدئة منحتني شعبية واسعة وبعدا جماهيريا اضطر الصحافة بكل أنواعها للانتقال حيث أنا في هذا القفص الذي لا يتعدى قامتي ببعض السنتمترات،ربما ينطبق علي نص الآية:" وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم"، وهذا ليس معناه أن حرية الفرد يمكن مقايضتها بأي متعة أخرى.

أقول لكم كيف حدث الأمر؛ بعد أن استوطنت صبية حلمي ذلك البيت المسيج بالعوسج والإسمنت تدفق نهر الشعر كما ذكرت وجرت على لساني بقدرة النار المضطرمة في داخلي أشعار كانت سلاحي الوحيد للوقوف أمام الطغيان الأخرس للعجوز المتخم الجيوب الذي أحكم إغلاق كل الثقوب المفضية إلى خدرها أعني حنان ــ ملهمتي منذ استحوذ غريمي على عطر أنفاسها ــ ومن هنا صدحت في صدري أغنيات الرثاء والغزل، المدح والوصف، بل أجرؤ على القول ــ وهي المرة الأولى التي أعي فيها قيمة هذا الاعتراف ــ إن حزني الشفاف حولني إلى متصوف زاهد في الدنيا ــ أكاد أسمع تعليقاتكم الساخرة،زهدت الدنيا فيك ــ بل إن روحي الهائمة في ليالي الوجد تلك كانت تسمع أصوات المجانين المشهورين عبر التاريخ، أقول ذلك بثقة ولا بأس إن رماني بعضكم بالمس فقد تعودت غربتي في زمنكم، قلت جاءتني يد جميل حانية مربتة على كتفي وشعري، فيما ضمني قيس إلى صدره وقال: هي أخت ليلى يا ابن الكبد الحرى، عزاؤك الكلمات ستعطر بها درب القادمين في أثرك، هذا نصيبنا يا ابن روحي وتلك ما كتبته يد المشيئة.

تحدث الانعطافات الكبرى ــ في الغالب ــ لمصادفة صغيرة، كما تدار محرقة الحروب لأسباب أوهى من بيت العنكبوت، خذ لك مثلا حادثة المروحة الشهيرة أقصد القطرة التي أفاضت جيش فرنسا على شاطئ سيدي فرج الفاتن ألم تكلفنا قرنا وربع من القهر والمسخ والدم والدموع؟ في ذلك اليوم قبيل دخولي القفص، أذكر جيدا لا تملك الذاكرة ألا تشتعل عند هذه النقطة؛ كنت في حديقة التجارب بالحامة أطارد أطياف حنان الملونة ووجهها الخمري تحت ألق شموع الفقد المضاءة عن آخرها، وعيناها الخضروان واستدارة فمها الذي كالخاتم كما يحلو لخيال أمي كلما عن لها التعبير عن زاوية في الجمال، ثم انفراج شفتيها عن عطاياها السخية. للمرة الأولى منذ عصرها الذهبي تسرق العين بعض المتعة من انفلات الأسماك داخل الأكواريوم، لعلي رحت أحسد انطلاقتها الغامرة. من يدري؟ هل يكون الشعر قد غافلني في تلك اللحظة فحط طائره الجميل على كتفي ورفع عقيرته بالغناء؟ كل ما في الأمر أن طفلا بنظرات حادة راح يحدق في باستغراب، أهو في السابعة أم الثامنة أم العاشرة لا أعرف. الأكيد أن ابتسامة شيطانية فلتت ثم انفجرت حولي كضحكة مراوغة كانت كافية للفت انتباه كثير من الزوار، ضحكته تلك المرشوشة بتوابل الشقاوة كانت كافية لتتشجع ضحكات أخرى و تتجرأ عيون كانت منذ حين خجولة، في البداية دنا مني ثلاثة أطفال آخرين طبعا يتقدمهم صاحب النظرة الشيطانية، متجاوزين مسافة الاحترام المتعارف عليها عالميا، مد الطفل الأول أعني ذاك السمين كالدب ــ وللإنصاف فمازال الدب يزورني كلما سنحت الفرصة ومع أنه يزداد ثقلا يوما بعد يوم فهو لا ينسى أبدا الهدية خاصتي قطعة الحلوى المحشوة بالشكولاطة ــ قلت راح يتحسس ذراعي وصدري ويشم يدي ويا للغرابة. نهرته:

ــ ما بك؟ ودفعته بعيدا عني. هل أشعلت نار الغضب الهشيم من حولي؟ نعم هو ما حدث بالضبط، كأن حقل الألغام ظل يترصد الإشارة حتى حانت اللحظة السحرية التي حولت العالم أقصد عالمي على فرقعات من الضحكات المذيلة بزمارات سيارات مجنونة، وفجأة وفي مثل الومضة رأيت نفسي داخل الحلقة، والحلقة تضيق والتصفيق يعلو؛ وجوه بيضاء وجوه خمرية وأخرى سمراء غليظة و نحيفة، طويلة ومستديرة، عيون كبيرة وصغيرة، متقدة ومنطفئة، سوداء وبنية، خضراء وزرقاء وعسلية، أيد ممدودة ومرفوعة، أكتاف عالية وواطئة أرجل وسيقان. صحت عبثا: هل أنا قرد يرقص؟ أأنا المهرج صاحب الألوان الصاخبة؟ يا ناس أمسكوا أبناءكم عني، الجراء تعضني وأنتم معرضون، الكارثة أن الآباء والأمهات وفي ما يشبه الوقفة التضامنية، لم يلتفتوا لحركات شفاهي وعروق رقبتي: اللعنة عليكم، تفوه، أولاد الكلاب، ولكن مالفائدة من صراخك في واد سحيق، تناهت إلي صرخات حنان من بعيد من أغوار الليل المتغطرس، ذكرت الحمار في حكاية جدتي وقد التف حوله الأطفال في موسم الحج، وكيف أقسم ألا يقربه طالما مازال هؤلاء الشياطين غير المصفدين يمرحون هناك.

في الصلاة لا يتوقف الإمام عن الحث على سد الفرج حتى لا تتسلل أرواح الشياطين المدنسة بين أرجل المؤمنين، أما أنا وفي لحظة العسر تلك فبحثت عن فرجة عسى يأتي منها الفرج كما يقول أسلافنا، ولست أدري كيف حدثت المعجزة وكيف انفرطت حبة من العقد، فانسللت عبرها هاربا، يا للعار لكم أن تتصوروا المشهد المخزي، لشخص راشد يعدو في حديقة ذات قدر من الرصانة والاحترام، فيما قافلة من الأطفال تعدو خلفه في مهرجان من الصراخ والضحكات النزقة، اللعنة، هاهي الأمور تسوء وتخرج عن نطاقها السلمي، لأن هؤلاء الملاعين الصغار شرعوا في قذفي بالنوى والحصى وقشور الليمون والبرتقال، وكنا قد غادرنا الحديقة الوقور، حديقة التجارب ما يعرف بصوفيا سابقا، خرجت أجرجر الذل وفي القلب حنين إلى الأسماك الملونة والمكتبة الوطنية، فيما مقام الشهيد يحدق في من عليائه ببرود، على مسافة انزلاق تلفريك، متعي الصغيرة ضلت طريقها، ضيعها الأولاد المشاغبون، أنا القادم من الشرق لأجلها. أسرعت لأخادع أبصارهم متواريا خلف البنايات، لكن عددهم تزايد بشكل رهيب، لم يعد الأطفال وحدهم، سار معهم الشبان العاطلون والمنزوون تحت الجسور والمدمنون والحشاشون، ليكون للشغب طعمه، رأيت المراهقين والكهول والفتيات حتى ربات البيوت، الجميع يتسابق ليحصل على شرف المشاركة في المسيرة الخاصة بإذلال الشاعر، أما بعضهم فيجهل بالتأكيد دوافع سيره واندفاعه وصفيره بل وهتافه، هل صرت ذا شأن لأحظى بكل هذا الحشد؟ أنا لست دكتاتورا لتطالب الجماهير برحيلي، ولست لصا ضبط متلبسا. ولكن هذا ما حدث على كل حال.

القفص يضيق حتما على الرغم من طيبة الجيران المسالمين، قديما قالوا الجار قبل الدار، وقد بدأت أتعلم لغتهم المنسكبة في همس الوحدة وصخب الجوع وزمجرة الغضب وبلاغة الحزن التي أعلنت عن نفسها بوضوح في وجه الببغاء جاري الجنب( سأفتح قوسا هنا لأشيد بموقف جاري الذي شرع في غناء بعض أشعاري تحية يا جار) وفي الجهة المقابلة تكوم الذل البليغ في عيني الأسد، آخذ دروسي كل صباح تحت حمام شمسي، هنا بحديقة السيدة الإفريقية أتنسم خضرة غابة بو شاوي اليانعة ــ بالأمس سمعت بعض العمال يتحدثون عن جولة وطنية سأزور من خلالها مختلف حدائق الحيوان وطنيا في الشرق والغرب والصحراء ليعرفني الناس عن كثب وربما وهذه البداية سأحظى بجولة خارج الوطن ــ وعلى بعد أمتار مدينة الألعاب التي أحبها قلبي في مطلع شبابه، أصدقكم أنا لا أحب الألعاب الاصطناعية صراحة فقط حنان أحبت ذلك وتعرفون القاعدة: المرء على دين خليله لهذا طلبت منها أن نتسلق الجبال الروسية هي بصوتها الضعيف وبرفض عينيها حرمتنا المتعة، إذ لا يعقل أن أتسلق الجبال بمفردي: قطعت تلك المسافة لأتسلقها معك. قلت: لن أتسلق جبال الناس لدينا جبالنا لنتسلقها. ركبنا معا العجلة الكبيرة وارتفعنا وانحدرنا ضاحكين كما لحن الأغنية التي أحببنا (موعود بالعذاب). وحين تناهت إلينا الصرخات عرفتها أمسكتها من يدها وقلت تعالي تلك لعبة القراصنة، رجوتها أن نصعد، كدت أضمها أمام الملأ وأنا أرجوها، غير أني اصطدمت بجدار رفضها، ليتها عرفت الرفض في وقته الحقيقي. حسنا صعدت السفينة وحدي وصرخت صرخت في الهواء، وفي لحظة الاستغراق المليئة بالذهول والنشوة تسلل القرصان من الخلف واقتاد حنان إلى مغارته، لا أدري هل تلك مجرد صورة رمزية أم أنها نبوءة الشاعر التي نبتت هناك في خط التماس بين الواقع والحلم.

يحدق الأطفال مبهورين وكذلك بقية الزوار يتملون من الكائن الخرافي الذي يتغذى على طعام خاص حتى لا يفقد خصوصيته ذات الجدارة والاستحقاق و المكون أساسا من الأماني والذكريات، كائن قادم من عصور الطهر والبراءة. في ذلك اليوم المشهود وحين أوشك الوضع على الانفلات تدخلت الشرطة مكتفية بتقييد الشاعر ورميه في السيارة ككل المجرمين واللصوص والمنحرفين، وهي حركة كافية لتحطيم بقية المشهد.

تداول على فحصي مجموعة من الأطباء والمختصين وبعد زمن من الجلسات والمشاورات تم استدعاء كبار البياطرة عبر الوطن بل إنهم استعانوا بخبراء من فرنسا وألمانيا وأمريكا واليابان،وبعد أن أجروا لي فحوصا وتحاليل معمقة، نظر الأطباء بحيرة في وجوه بعضهم ودونوا تقريرهم:" إنه آخر السلالة، سلالة الشعراء الجوالين."

نسيت أن أخبركم بأني أخضع لحمية خاصة من أجل إنقاص الوزن كما أني أتمرن على تمطيط جسدي يوميا محترما تعليمات زملائي القطط، عساني أتسلل عبر فتحات القضبان الحديدية، لهذا أحرص ألا أبالغ في قبول هدايا الأطفال حين يقفون قبالتي محملين بالفرح والدهشة هاتفين: ما أجمله! صدقوني أبذل مشقة كبرى حتى لا يتسلل الغرور إلى نفسي، بل إني أجتهد في مراوغة النفس لكي لا تستسلم لإغراء الملذات وتستحب القعود وسماع المديح، ربما يمكن أن أتسلل ذات ليل إلى الغابة المجاورة لأدون أشعاري.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى