الأحد ٢٦ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم سامية إدريس

صخب

منال امرأة الصباحات الصاخبة، بهذا الاسم وتماشيا مع امتلائها الدائم بالفرح أطلقت عليها معلمة الحي التسمية. بالتأكيد هناك أسباب لا تراوغ المنطق لتتجرأ معلمة اللغة العربية نسيمة على إطلاق أجنحة اسم هو بكل تأكيد يطابق حامله. ببساطة شديدة حدثت الأمور، لأن نسيمة الملتفة في الصمت ــ ملتقى الضدين ــ ماهي إلا الجارة الجنب لمنال وذويها، ولأن صخب منال كان يتجاوز جدران البيت الواسع ويتردد صداه في الحديقة بل إن صوتها اللاذع ليدق أذني المعلمة وهي تصحح الفروض والواجبات. ليس هذا فحسب، فمنال دائما ترافق صخبها نحو الخارج عند البوابة الخارجية لمنزلها. فلابد أن يلقي ثوبها الصارخ اللون تحيته الصباحية على العابرين ولابد أن يقوم شعرها الطويل المرسل على هواه والمصبوغ بلون الرمان أن يقوم بالواجب.

من البوابة الخارجية تعلن منال أن صباحا جديدا قد بدأ،لهذا عليها أن تزعج الصمت قليلا، بوجهها الضاحك و فستانها القصير و حذائها ذي الكعب العالي، طبعا دون أن يتأخر طلاء أظافرها وأحمر شفاهها وعدسات عينيها المتحولتين، بعض الاطفال أيضا كانوا يسمونها المتحولة، لأنها لا تثبت على شكل.

ومنذ بلغت السادسة عشر وأهل الحي يستيقظون على صباحاتها المبهرجة، كثير منهم كان يتجنبها دفعا للشبهات، ولكن منال كانت تلقي بكل النظرات المتلصصة أو حتى الوقحة خلف ظهرها، وتطلق ضحكتها المفرقعة في الفضاء. ومن ثم تسدل نظاراتها السوداء فوق عينيها دون مبالاة.

لعلها آفة الأحياء الشعبية، حيث يستحم الجميع في مستنقع واحد، الاستثناء التي أبت الغطس هناك كانت منال، على الرغم من عتاب والدها الحاج اعمر، طبعا لم يكن من صالح زوجة أبيها التعليق أبدا، وعلى الرغم من تهديدات شقيقها، مضت منال في دربها متفوقة على الجميع و ساخرة من الجميع وربما من الحياة نفسها.

ذات إثنين لم يخرج الصباح المبهرج، حل ضباب وعلا لون كئيب في الأفق، تساءلت معلمة اللغة العربية: لم الصباح رمادي هذا اليوم؟ والتفتت بذعر كمن يفتقد عادة ما : أين اختفى الصباح الصاخب؟ فيما غمزت الفتيات بعضهن.
وتساءل الشبان المبكرون نحو العمل و الجامعة:
ــ لم غاب الصباح المبهرج؟

أما الأطفال فأعلنوا بألم أن المتحولة لن تؤنس طريقهم نحو المدرسة.
في حين علق المتسول عند الزاوية بجانب المحطة عينيه على طلتها المباركة.

في المساء كان الجميع مكدرا: لعلها مريضة، ألا تستحق الزيارة؟ أليس حق المريض عيادته؟ أليست جارتنا منذ سنوات؟ وأنتم تعرفون حق الجار.
ــ وما أدرانا أنها مريضة؟ قد تكون مسافرة، ربما طلبت إجازة أو عطلة مرضية، من يدري؟ أليست بشرا من لحم ودم؟ ألا يحق لها أن تغيب عن أعيننا؟

انشغل أهل الحي جميعا بغيابها المفاجئ عن الخروج للعمل وتزيين صباحاتهم بفرشاة ألوانها الزاهية. وناموا وفي صدورهم غصة عدم تكحيل أعينهم بمنظرها البديع، على الرغم من انزوائها داخل متاهات ذاتها، إذ لا أحد منهم تجرأ على تقديم تلك الهبة العظيمة المسماة صداقة، بما في ذلك زميلاتها السابقات في المدرسة، بل إن صديقات طفولتها آثرن الانسحاب في صمت من ساحة لعبها، كأنما كانت تلعب بالديناميت، أو تتعاطى الممنوعات.

بعد ثلاثة أيام من الغياب عادت منال إلى مساحتها المعتادة وعرجت ــ كما كانت تفعل دوما ــ على زاوية المتسول، ثم وقفت منتصبة كالنخلة، طبعا لا أحد من الحاضرين تعرف على منال، ببساطة لأنها تحجبت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى