الاثنين ٩ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم سامية إدريس

نافذة

الشعرة التي تنتمي إليّ

 ــ وأنت ما قصتك يا أختي؟ كل اللواتي مررن عبر هذا الباب يقلن إنهن بريئات وطيبات، لا تخجلي، ليس هناك ما تخجلين منه، في الهوى سوى. تضحك محدثتي، كأنها تقضي إجازة. وأجهش بالبكاء، فتمسح على رأسي وكتفي، الله، هؤلاء أيضا بشر، نساء، يبكين السرير البارد، يتأوهن وتشتعل قلوبهن بالحنين، لكم يبدو العالم غريبا، في هذا المكان المسيج، هناك من يقدم الخبزو الفاكهة مجانا، دون أن يمهرها بتوقيع اسمه.
 
 ــ قولي لا تخجلي، لترتاحي وتتصالحي مع السرير اليابس والوسادة الخشنة، الوسادة التي تختزن أنات ودموع السابقين. لياليهم ذات القمر المشروخ. قولي يا أختي، أنا تعودت ثلاث سنوات كافية لترويض لبؤة وتضرب صدرها بكفها الأيمن. 
 
كأن السدادة التي ألجمت فمي قد طارت، حسنا قلت لها:

 ذلك اليوم، كنت في بيت خالتي، قضيت الصبيحة كاملة هناك، تناولنا الغداء وارتشفنا قهوتها الخرافية وحتى خليطها السحري من منقوع الأعشاب ذات المذاق اللاذع . غسلت الأطباق ونفضت الغبار ونثرت بصماتي في كل مكان، أمام المرآة وفي الحمام. تمددت بجانبها في السرير حدثتني بصوتها الهامس ــ وتلك إحدى أحب صفاتها إلي ــ عن حلم عينها المؤجل، قالت: إنها لن تستريح حتى ترى فلذة كبدها، ولن تموت راضية حتى تسمع صوته، هذا الذي أغواه البحر. كان كلامها بمثابة رسالة عزاء مشترك بيني وبينها.
 
 هذه خالتي الأثيرة الدافئة ذات الرائحة البدائية و الصوت المذيل بموسيقى، وكما ظلت تفعل دوما مررت يدها على رأسي خللت بأصابعها شعري ونظرت إلي:

 ــ آه، لو يعود!
 
 تحسست خاتمه في أصبعي وتنهدت، لم تقل أي كلام آخر غير أن تراه. ربما كانت تنظر إلى عتبة الباب، تترقب ظله المتراقص ودق خطواته وحشرجة المفتاح في القفل، هل كانت تنتظر أحدا هذا الخميس؟ ضيفا مهما مثلا؟ لا أدري، ما كانت خالتي لتخفي عني هذا الأمر، ولكنها طيلة الصبيحة ظلت تنظر باتجاه الباب نظرة ترقب.
 
غادرتها بعد الظهر تركتها على السجادة أترقب دعواتها على باب سماء مفتوحة وخرجت. 
 
كان اليوم الثالث من إجازتي السنوية وقد مررت لأودعها، أحمل حقيبة كبيرة فيها بعض ثيابي وهدايا لجدتي من أمي وأبي ومني، ففي بيت جدتي تتغير جغرافيا العالم، الطريق الترابي والسيارة العجوز ذات الشخير الحاد والدواب والأطفال الحفاة ورائحة التراب وبقايا خضرة وماء وطراوة عشبية .
 
 في زمن الاحتباس الحراري ومكيفات الهواء يبدو بيت جدتي كتحفة من الطين أما جدتي فهي امرأة من تراب وماء ينبجس بين الصخور، منسجمة تماما مع ديكورها، كقنينة خزفية موشومة بالخطوط والدوائر .

وفي الغد اشرأبت الأعناق، كل الأعناق وقفت عند الشرفات الطينية تترقب مقدم رجال الدرك سيارتا أندروفر تثيران الغبار والخوف وأنا بدوري خرجت منظر نادرمثير للأسئلة الغريب أنهم كانوا يحملون صورة وحين اقتربت مع النساء والرجال والأطفال الملتفين حول السيارة لأستفسر تفرس في الضابط وأومأ لمرافقيه. صرخت:

 ــ ما تهمتي ياسيدي؟

 ــ أولا تعرفين؟ القتل .

 ــ ومن القتيل؟

 ــ خالتك، خالتك زينب.

ولم أدر بعدها، وبالأمس فقط أدركت أني هنا في سجن النساء بالعاصمة ولم أصدق بعد أن خالتي رحلت على يد مجرم ألبس التهمة لي.
 
قال الجيران الذين انتشلوا الجثة بأن فتاة جميلة متوسطة القامة تتردد على بيتها كثيرا. الشيء الذي لا يعرفه الكثير هو أني معلقة بخيط سحري لذاك البيت، لهمسات وأنات وضحكات لنكات وأغنيات، لغبار انسحق كما اللحظات.
 
وحين فتشت الشرطة البيت عثرت على هاتفي وبصماتي وبقايا شعري، ولم تنصت أبدا إلى أصداء أناتي المتكومة هناك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى