الحطيئة

اَلشِعــرُ صَــعبٌ وَطَويلٌ سُلَّمُه
إِذا اِرتَــقى فــيهِ الَّذي لا يَعلَمُه
زَلَّــت بِهِ إِلى الحَضيضِ قَدَمُه
وَالــشِعرُ لا يَسطَيعُهُ مَن يَظلِمُه
يُــريــدُ أَن يُــعــرِبَهُ فَــيُــعجِمُه
وَلَم يَزَل مِن هَيثُ يَأتي يَحرُسُه
مَــن يَــسِمِ الأَعداءَ يَبقَ ميسَمُه

الحطيئة

الحطيئة(توفي سنة 674 م) هو أبو مُلَيْكَة جَرْوَلُ بنُ أَوْسِ بنِ مالِكٍ من قبيلة بني عبس الغطفانية،وهو شاعر مخضرم اشتهر بسلاطة لسانه وكان دميما، أسلم ثم ارتد ثم سارع فعاد إلى الإسلام من جديد.وهو القائل عندما ارتدّ:

أطعنا رسول الله إذ كان بيننا
فيا لهفتي ما بال دين أبي بكرِ
أيورثها بكرا إذا مات بعـــــده
فتلك وبيت الله قاصمة الظهرِ

وهذا الشاعر العظيم عشنا معه ومع آخرين ونحن في مراحل الدراسة ،فحفظنا من شعره قصيدته المشهورة باسم (الضيافة العربية)وبغض النظر عما إذا كانت هذه القصيدة له أو منسوبة إليه فقد كنا مأخوذين بمعانيها،وألفاظها السلسة لدرجة أن عبد ربه هذا ما زال يحفظها عن ظهر قلب لحد الساعة،وهذه القصيدة تبدأ بالبيت التالي:

وطاوٍ ثلاث عاصب البطن مرملٍ
ببيداء لم يعرف بها ساكنٌ رسما
وكثيرا ما كنا نردد هجاءه لنفسه بالبيتين :
أبــت شــفتاي اليوم إلا تكلماً
بهجو فما أدري لمن أنا قائله
أرى اليوم لي وجهاً فلله خلقه
فــقبح مــن وجه وقبح حامله

والشطر الثاني في رواية أخرى يبدأ هكذا:(بفحشٍ فما أدري...).وأم الحطيئة كانت أمة ولم توله العناية اللازمة منذ صغره فعاش ناقما عليها وعلى أبيه وعلى عشيرته،ولذا كلهم كانوا غرضا يصوب إليه سهام هجائه.

وقد هجا الزِّبرقان بن بدر التميمي الذي عمل للخليفة عمر بن الخطاب في جمع الزكاة،فقال فيه:

دع المكـارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فأنت الطاعم الكاسي

ولما شكاه الزبرقان للخليفة عمر قال له عمر لا أظن أنه هجاك وربما هي معاتبة منه لك ،ولكن سأطلب رأي حسان بن ثابت في ذلك،وكان جواب حسان أن الحطيئة لم يهج الزبرقان فقط بل سلَح عليه.فقام عمر بسجنه،فقال مخاطبا عمر مستعطفا إياه:

مــاذا تــقول لأفــراخٍ بــذي مرخٍ
زغبُ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ
ألــقيت كــاسبَهم فــي قعر مُظلمة
فــاغفر، عــليك سلام الله يا عمر
أنــت الإمامُ الذي من بعد صاحبه
ألــقى إلــيك مــقاليدَ النُّهى البشرُ
لــم يــؤثروك بــها إذ قدّموك لها
لــكن لأنــفسهم كــانت بــك الأثرُ
فامنن على صبيةٍ بالرَّمْلِ مسكنُهم
بــين الأبــاطح يغشاهم بها القدرُ
نــفسي فــداؤك كــم بــيني وبينَهُمُ
من عَرْضِ واديةٍ يعمى بــــها الخبرُ

فلما سمع عمر هذه الأبيات قيل أنه بكى وعفا عنه ثم اشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة ألف درهم ،ونصحه قائلا:إياك والمقذع من القول.وترفَّع عن قطع لسانه مخافة أن يبقى ذلك بعده سنة متبعة.

ومن قصائد الحطيئة التي تقرأ مرارا وتكرارا ولا تمل قصيدته الدالية التي يقول فيها.

أَلا طَــرَقَتنا بَــعدَما هَــجَدوا هِندُ
وَقَد سِرنَ خَمساً وَاِتلَأَبَّ بِنا نَجدُ
أَلا حَــبَّذا هِــندٌ وَأَرضٌ بِــها هِندُ
وَهِندٌ أَتى مِن دونِها النَأيُ وَالبُعدُ
وَهِندٌ أَتى مِن دونِها ذو غَوارِبٍ
يُقَمَّصُ بِالبوصِيِّ مُعرَورِفٌ وَردُ

ثم يشرع في مدح آل شمّاس بن لأي قائلا:

وَإِنَّ الَّــتــي نَــكَّــبتُها عَــن مَــعاشِرٍ
عَلَيَّ غِضابٍ أَن صَدَدتُ كَما صَدّوا
أَتَـــت آلُ شَــمّاسِ بــنِ لَأيٍ وَإِنَّــما
أَتــاهُم بِــها الأَحــلامُ وَالحَسَبُ العِدُّ
فَــإِنَّ الــشَقِيَّ مَــن تُعادي صُدورُهُم
وَذو الــجَدِّ مَن لانوا إِلَيهِ وَمَن وَدّوا
يَــســوسونَ أَحــلاماً بَــعيداً أَنــاتُها
وَإِن غَــضِبوا جــاءَ الحَفيظَةُ وَالجِدُّ
وتنتهي القصيدة بهذه الأبيات الرائعة:
أولَــئِكَ قَــومٌ إِن بَــنَوا أَحسَنوا البُنى
وَإِن عاهَدوا أَوفَوا وَإِن عَقَدوا شَدّوا
وَإِن تَــكُنِ الــنُعمى عَلَيهِم جَزَوا بِها
وَإِن أَنــعَموا لا كَــدَّروها وَلا كَــدّوا
وَإِن قــالَ مَــولاهُم عَلى جُلِّ حادِثٍ
مِنَ الأَمرِ رُدّوا فَضلَ أَحلامِكُم رَدّوا
أولَــئِــكَ قَـــومٌ لَـــن يَــسُدَّ مَــكانَهُم
شَــريكٌ إِذا عُــدَّ الــمَساعي وَلا وَردُ

عندما حضرت الوفاة الحطيئة قال له بعض الحاضرين اوْصِ،فقال:

أبلغوا الشمّاخ بن ضرار أنه أشعر العرب.

فقالوا له إن الشماخ لا يجيبك،فأوصى بالشعر ،فقال تلك تلك الأبيات التي أثبتناها في رأس المقال.

ونظرا لمكانة الحطيئة في الشعر وقدره العالي فيه فقدقال الشاعر كعب بن زهير:

فَمَن لِلقَوافي شانَها مَن يَحوكُها
إِذا ما ثَوى كَعبٌ وَفَوَّزَ جَروَلُ
يَــقولُ فَــلا يَــعيا بِشَيءٍ يَقولُهُ
وَمِن قائِليها مَن يُسيءُ وَيَعمَلُ
يُــقَوِّمُها حَــتّى تَــقومَ مُــتونُها
فَــيَقصُرُ عَــنها كُــلُّ ما يُتَمَثَّلُ

والمقصود بجرول في الشطر الثاني بالطبع هو الشاعر الحطيئة.

وقصيدة كعب التي اخترنا منها الأبيات أعلاه هي قصيدة طويلة إلى حد ما وتبدأ كالتالي:

أَلا بَــكَرت عِرسي تَلومُ وتَعذُلُ
وَغَيرُ الَّذي قالَت أَعفُّ وَأَجمَلُ
وَلَــما رَأَت رَأَســي تَــبَدَّلَ لَونُهُ
بَياضاً عَن اللَونِ الَّذي كانَ أَوَّلُ

وبما أن شعر الحطيئة جميل وممتع والنفس لا تمل منه والأذن تستكين إليه وتطمئن لسماعه أسوق للقارئ إحدى روائعه وهي قصيدة تائية من بحر الطويل،تقول القصيدة:

أَشــاقَتكَ لَيلى في اللِمامِ وَما جَزَت
بِــما أَزهَــفَت يَــومَ اِلتَقَينا وَضَرَّتِ
كَــطَعمِ الــشَمولِ طَــعمُ فيها وَفارَةٌ
مِنَ المِسكِ مِنها في المَفارِقِ ذُرَّتِ
وَأَغــيَدَ لا نِــكسٍ وَلا واهِنِ القِوى
سَــقَيتُ إِذا أولــى العَصافِرِ صَرَّتِ
رَدَدتُ عَــلَيهِ الــكَأسَ وَهــيَ لَذيذَةٌ
إِلــى الــلَيلِ حَــتّى مَــلَّها وَأَمَــرَّتِ
وَأَشعَثَ يَهوى النَومَ قُلتُ لَهُ اِرتَحِل
إِذا ما النُجومُ أَعرَضَت وَاِسبَطَرَّتِ
فَــقامَ يَــجُرُّ الــثَوبَ لَــو أَنَّ نَــفسَهُ
يُــقــالُ لَــهُ خُــذها بِــنَفسِكَ خَــرَّتِ
أَلا هَــل لِــسَهمٍ فــي الــحَياةِ فَإِنَّني
أَرى الحَربَ عَن روقٍ كَوالِحَ فُرَّتِ
وَلَــن يَــفعَلوا حَــتّى تَــشولَ عَلَيهِمُ
بِــفُرسانِها شَولَ المَخاضِ اِقمَطَرَّتِ
عَــوابِسَ بِــالشُعثِ الكُماةِ إِذا اِبتَغوا
عُــلالَــتَها بِــالمُحصَداتِ أَضَــرَّتِ
تُــنــازِعُ أَبــكــارَ الــنِــساءِ ثِــيابَها
إِذا أُخــرِجَت مِن حَلقَةِ الدارِ كَرَّتِ
بِــــكُــلِّ قَــــنــاةٍ صَــدقَــةٍ رُدَنِــيَّــةٍ
إِذا أُكــرِهَت لَــم تَــنأَطِر وَاِتمَأَرَّتِ
وَإِنَّ الــحُدودَ الــزُرقَ مِــن أَسَلاتِنا
إِذا واجَــهَــتهُنَّ الــنُحورُ اِقــشَعَرَّتِ
وَلَو وَجَدَت سَهمٌ عَلى الغَيِّ ناصِراً
لَــقَد حَــلَبَت فــيها نِــساءٌ وَصَرَّتِ
وَلَــكِنَّ سَــهماً أَفــسَدَت دارَ غــالِبٍ
كَما أَعدَتِ الجَربى الصِحاحَ فَعُرَّتِ

أوصى الحطيئة بأن يعلق على كفنه هذا:

لا أحــدٌ ألأم مــن حطيئةْ
هجا البنين وهجا المريئةْ

قال عنه صاحب كتاب"الأغاني":

الحطيئة من فحول الشعراءومقدميهم وفصحائهم.

رحم شاعرنا الكبير الحطيئة على ما أمتعنا به من شعر جميل حسن الرونق ومتين السبك،فقد كان فخرا للشعر كما كان فخرا لنا وللغة العربية.

اللهم إنا نعوذ برضاك من سخط،فكن أنت المعين لنا في كل وقت وآن.