الحوار ودوره في تمكين السرد القصصي
يُعَدّ التبادل الكلامي بين الشخصيات أحد أهمّ الأدوات السرديّة التي تمنح القصة حيويّتها وقدرتها على تمثيل عالميها الداخلي والخارجي. فهو ليس مجرّد كلام يُتبادَل داخل النص، بل آلية لتفجير الحدث، وكشف الرؤية، وتحريك الإيقاع، وتنظيم التوتر داخل الحكاية. وعند النظر إلى هذا العنصر بوصفه أداة تُسهِم في تمكين السرد، يتبيّن أنه قيمة جمالية ودلالية تتجاوز حدود وظيفته الظاهرة. فعندما يُستثمَر بوعي، يتحوّل إلى قناة تتيح للقارئ الولوج إلى عمق التجربة القصصية، والاقتراب من الشخصيات بوصفها ذوات تنطق بتجاربها، لا ظلالاً يُحرّكها السارد فقط. وعلى هذا الأساس يصبح الكلام المباشر أحد المكوّنات الأساسية التي تُبنى عليها القصة الحديثة، ومساحةً تتداخل فيها الأصوات وتتقاطع، فينشأ من ذلك فضاء سردي غنيّ قادر على بناء معنى متعدد الأبعاد، لا يقتصر على ما يرويه الكاتب مباشرة.
إنّ المساحة اللفظية داخل القصة ليست عنصراً ثانوياً يمكن الاستغناء عنه، بل حضور نوعي يُعيد تشكيل السرد ويُسهم في توزيع السلطة داخله. ففي النصوص التي يهيمن عليها السارد يتراجع صوت الشخصيات، بينما يتيح التفاعل الكلامي لهذه الشخصيات استعادة وجودها وإعلان رؤيتها الخاصة. هذا الانتقال من سردٍ يعتمد على الراوي إلى سردٍ تشاركي يجعل القصة أكثر قرباً من الواقع، لأن الكلام المنطوق يحاكي لغة الحياة اليومية، ويعكس طريقة البشر في مواجهة مواقفهم. وعند دخول الأصوات المختلفة إلى المشهد لا يعود السارد المتفرّد الوحيد بصنع الأحداث، بل يصبح لكل شخصية دور في صياغة مسارها، مما يمنح السرد طابعاً ديمقراطياً تتوزّع فيه الخطابات على أكثر من مصدر، فتتحوّل القصة من رؤية أحادية إلى رؤية متعددة تستوعب اختلافات الشخصيات وصراعاتها وانفعالاتها.
ومن منظور نقدي، يشكّل الخطاب المباشر مفتاحاً أساسياً لفهم الشخصية القصصية. فبينما يقدّم السرد الوصفي جانباً خارجياً منها، يكشف الكلام المتبادَل عن بنيتها الداخلية. إن طريقة التعبير، ونبرة الصوت، وانتقاء المفردات، والوقفات، والتردّد، والاندفاع ذلك يكشف الشخصية في لحظة تفاعل حيّ لا يحتمل الزيف. ولأن الشخصية في لحظات الحديث تقف أمام القارئ دون وساطة، يكون حضورها أكثر صدقاً وتأثيراً، وقد نجح كثير من الكتّاب في جعل التبادل اللفظي مرآة دقيقة لوعي الشخصيات، يكشف ما لا تكشفه الأفعال، ويصرّح بما قد لا تعترف به الشخصية حتى مع نفسها.
ولا يتوقف دور الكلام المباشر عند كشف الشخصية، بل يتعدّاه إلى تنظيم البناء الحدثي. فكثير من التحوّلات السردية لا تتم عبر الوصف المباشر، بل من خلال التفاعل اللفظي الذي ينقل المعلومات، ويُشعل الصراعات، ويكشف الحقائق، ويُغيّر اتجاه الحكاية. وعندما يُصاغ هذا التفاعل بدقة يصبح محرّكاً للأحداث لا يقلّ فاعلية عن الفعل نفسه. وفي بعض النصوص يكون الكلام المتبادَل العنصر الذي يقود القصة نحو ذروتها أو نهايتها، خصوصاً في الحكايات القائمة على التوتر الداخلي أو المواجهات بين الشخصيات، مما يكشف عن دوره البنائي بوصفه جزءاً من هندسة السرد، وعنصراً في صياغة اللحظة الدرامية، ووسيلة لصناعة المفاجأة أو التوتر أو الكشف.
ومن الناحية الجمالية، يضفي الكلام المباشر على القصة إيقاعاً خاصاً. فالسرد المتواصل بلغة الراوي قد يصنع قدراً من الرتابة إذا لم تتخلّله مساحات كلامية تُحدث تنويعاً في النبرة. فالكلام القصير يمنح النص توتراً وإيقاعاً سريعاً، بينما تتيح الجمل المطوّلة مجالاً للتأمل والكشف. وهكذا يصبح الإيقاع جزءاً من المعنى، ويغدو تنظيم هذا العنصر جزءاً من إدارة الأثر الذي يتركه النص في ذهن القارئ.
وإذا كانت البنية القصصية تعتمد على تفاعل الأزمنة والمشاهد، فإن الخطاب المباشر يضطلع بدور مهم في معالجة الزمن داخل القصة؛ فهو يبطئه حين يتخذ شكل نقاش مفصّل، ويُسرّعه حين تتبادل الشخصيات جملاً مقتضبة. بذلك يصبح الكلام وسيلة للتحكّم بجرعة الزمن القصصي وطريقة توزيعه بين مشاهد الحركة ومشاهد التأمل. وفي بعض النصوص يشكّل الكلام ذاته لحظة زمنية، لأنه يخلق مشهداً مفتوحاً لا يقوم على تسلسل الفعل بقدر ما يقوم على اشتباك الأصوات.
كما يسهم التفاعل اللفظي في تعزيز الواقعية داخل النص، إذ يمثّل جزءاً من حياة الشخصيات، وغيابه قد يجعل السرد يبدو مصطنعاً أو متكلّفاً. فالقصة التي تخلو من المواقف الكلامية تفقد القدرة على تجسيد العلاقات الإنسانية التي تقوم أساساً على لغة تُقال وتتفاعل. ومن خلالها تتحدّد المسافات بين الشخصيات: قرب، جفاء، هيمنة، ندّية، تضاد… وكل هذا يظهر عبر الأصوات أكثر مما يظهر عبر الوصف الخارجي، لأنها تمثّل البعد الاجتماعي للحكاية وتقرّبها من الواقع.
ومما لا شك فيه أنّ طبيعة التفاعل اللفظي داخل القصة تُعَدّ انعكاساً لطبيعة السرد نفسه. فالتوتر في الأصوات يشير إلى قصة قائمة على صراع، والهدوء يعكس قصة تأملية، وتقطّع الجمل يدل على شخصية مضطربة، بينما تدلّ الجمل الواثقة على شخصية متماسكة. وهكذا لا ينفصل الكلام المباشر عن البنية العامة للنص، بل يشكّل جزءاً من نسيجه العميق، يكشف طبيعة العالم الذي تدور فيه الأحداث، ويُظهر طابع العلاقات الإنسانية داخله. وهناك نصوص تجعل التبادل الكلامي عمودها الفقري فلا يتقدّم السرد إلا من خلاله، وأخرى تستخدمه بقدر محدود لكنه جوهري، يظهر فقط عند لحظات الإفصاح أو التحوّل.
وعند طرح السؤال: كيف تبدو القصة عندما تهيمن عليها الأصوات المباشرة؟ نجد أنها تتحوّل إلى مشهد حيّ أقرب إلى المسرح، حيث تُصبح الأصوات محرّكاً أساسياً. فالقارئ لا يتلقى الأحداث عبر الراوي، بل يواجهها مباشرة عبر تفاعل الشخصيات. وإذا رأى بعض النقاد أن الإكثار من هذه المساحات قد يضعف السرد، فإن آخرين يرون فيها قدرة كبيرة على تجسيد الواقع ونقل التوتر الإنساني بشكل مباشر.
ويمكن القول إنّ الكلام المتبادَل يشكّل أحد أهم العناصر التي تمنح السرد طاقته وفاعليته؛ فهو يكشف الشخصيات، ويحرّك الأحداث، وينظّم الإيقاع، ويولّد التوتر، ويتحكّم بالزمن، ويخلق مستويات متعددة للمعنى. وعندما يُوظَّف بوعي فنّي يتحوّل إلى طاقة جمالية مضاعفة لأثر السرد، ويجعل القصة أكثر ثراء وقدرة على تمثيل الإنسان في لحظاته الدقيقة والكبيرة. وهكذا لا يكون هذا العنصر مجرد تقنية من تقنيات الكتابة، بل وسيلة تمكّن السرد وتفتح أمامه مساحات جديدة للتعبير عن العالم.
