

القناع
كان القناعُ أكثر من مجرّد شيء وُضع على الطاولة في غرفته؛ بدا له منذ اللحظة الأولى كائنًا ينتظر أن يُستدعى، مثل حيوانٍ قديم لم يمت بعد، أو ذكرى منسية ترفض الدفن. كان يراقبه طويلًا ويتجنّب لمسه، كأن لمسة واحدة تكفي لإشعال سلسلةٍ لا رجعة فيها.
ليالٍ كاملة قضاها يحدّق فيه. لم تكن له ملامح محددة: عينان محفورتان في فراغ، شفتان بلا خط واضح، تجاعيد غير مكتملة، كأنه وجهٌ قيد التشكّل. أحيانًا كان يظن أنّه يتنفّس.
وحين قرّر أخيرًا أن يضعه، لم يكن القرار نابعًا من فضول، بل من إحساس غامض أنّه كان يرتديه منذ زمن، وأنّ تلك اللحظة مجرّد اعترافٍ متأخّر.
ما إن التصق القناع بوجهه حتى شعر أنّ شيئًا منه يتبخّر. المرايا لم تعد تعكس صورته القديمة، بل مزيجًا غريبًا: نصف ملامحه، ونصف وجهٍ مجهول. في البداية ظنّه وهمًا، لكن سرعان ما بدأ يسمع صوتًا آخر يتكلم داخله. لم يكن صوتًا غريبًا، بل شبيهًا به، لكنه أكثر جرأة، وأكثر صلابة، وأكثر قسوة.
وحين خرج إلى الشارع، لم يلاحظ أحد وجود القناع. كانوا يتحدّثون معه كالمعتاد، لكنّهم يتوقّفون فجأة وينظرون في عينيه مطوّلًا، كأنّهم في ريبٍ لا يعرفون تسميته.
في المقهى، سأله صديقه القديم عادل:
– "ما بك؟ صرتَ تتكلّم بلسان لا أعرفه."
ابتسم أحمد، أو بالأحرى ابتسم القناع، وقال:
– "ربّما لم أكن يومًا كما تظن."
تجمّد عادل، كأنّ الجملة ليست له، بل استعارة هبطت من مكانٍ لا يراه.
الأيّام التالية صارت اختبارًا مستمرًّا. كلّما تكلّم، كان القناع يصوغ الكلام قبله. الجمل تخرج جاهزة، باردة، دقيقة، تحمل حكمةً أو تهديدًا مبطّنًا. في العمل، انبهر الزملاء به. صاروا يستشيرونه، ويسمعون رأيه وكأنّه نهائي. لم يعد ذلك الشخص المتردّد، بل صوتًا يشبه السلطة. لكن في الليل، كان يسمع نفسه في داخله، خافتًا، متقطّعًا، كأنّه يتوسّل للعودة.
جلس في حديقةٍ عامّة، يراقب الناس. أدرك فجأة أنّ لكلّ شخصٍ قناعًا خفيًّا: الموظّف الذي يتحدّث بجدّيةٍ مصطنعة، الأمّ التي تبتسم رغم تعبها، العاشق الذي يكرّر كلماتٍ سمعها في الأغاني. الجميع أقنعة تتحرّك، وتتبادل أدوارها بلا توقّف. لكن الفارق أنّ أقنعتهم كانت شفّافة، تذوب أحيانًا، بينما قناعه كان قد صار جلده الجديد.
اقترب منه رجلٌ مسنّ، جلس بجانبه، وقال:
– "أرى أنّك اخترت أن تعلنه."
نظر إليه بدهشة:
– "ماذا تعني؟"
ابتسم الرجل، وكشف شيئًا تحت معطفه: قناعًا آخر، قديمًا، متآكلًا.
– "كلّنا نحمل واحدًا. لكن قلّة فقط يجرؤون على كشفه. أنت الآن في مرحلة الخطر: إمّا أن تحكمه أو يحكمك."
اختفى الرجل كما ظهر، تاركًا في نفسه ريبةً أعمق: هل القناع مصيره الشخصي، أم مصير الجماعة بأكملها؟
مرّ الوقت، وبدأت الأصوات تتكاثر في رأسه. لم يعد القناع صوتًا واحدًا، بل جوقة كاملة. أحيانًا يتكلّمون معًا، وأحيانًا يتناوبون. بعضهم يدفعه للسيطرة، بعضهم يحثّه على الصمت، وبعضهم يسخر من محاولاته للفهم. صار يرى وجوه الأصدقاء تتغيّر. غدت المسافة بينه وبينهم أوسع. أحدهم قال له بوضوح:
– "أنت لست أنت. أو ربّما أنتَ أكثر ممّا يجب."
في لحظة يأس، حاول نزع القناع. جرّب بيديه، وأظافره، والماء، والنار. لكنّه صار جزءًا من جلده، لا يمكن فصله إلا بفصله عن نفسه. وهنا ظهرت فكرة مرعبة: ربّما لم يكن القناع شيئًا خارجيًّا، بل كان هو منذ البداية، وقد كشف عن نفسه فقط. وربّما كان كلّ وجهه السابق هو القناع، وهذا هو الوجه الحقيقي.
لكن، ما هو "الحقيقي" أصلًا؟ أهو ما نرتديه لنُخفيه، أم ما يظهر رغمًا عنّا؟
اليوم، وهو يمشي في الشارع، يرى الوجوه كأنّها مرايا. يرى في كلّ شخصٍ احتماله الخاص. يسمع أصواتًا تخرج من الناس لا تخصّهم، بل تخصّ النصوص التي ورثوها، والسلطة التي تسكنهم، والذكريات التي لم يعيشوها. أمّا هو، فلم يعد يبحث عن نزع القناع. يكتفي بالسير بين البشر كعلامة متحرّكة، كدليلٍ على أنّ الهويّة ليست سوى لعبة.
وحين يغمض عينيه في الليل، يهمس له صوت صار أوضح من أي وقتٍ مضى:
– "أنا لست وجهًا مستعارًا. أنا مجموع وجوهك التي أنكرتها."
ربّما لن يستيقظ يومًا من هذا الهمس، وربّما، في أعماقه، لم يُرِد أن يستيقظ أصلًا.