عبور متأخّر
في مساءٍ يشبه انكسارَ المرايا على صفحةِ ماءٍ راكد، خرج أبو سلمان من عزلته اليومية، كأنّ قدميه تُساقان إلى شيءٍ لم يتّضح بعد. كان الضوء يتسرّب من بين النوافذ الضيّقة مثل غبارٍ ذهبيّ، فيما كانت المدينةُ تستعدّ لتمويه أصواتها خلف طبقاتٍ كثيفة من الصمت.
لم يكن في نيّةِ أبي سلمان أن يغيّر طريقه، غير أنّ حدسًا خفيًّا دفعه نحو ممرٍّ جانبيٍّ لا تطرقه العينُ إلّا مصادفة. كان الممرّ ضيّقًا، محمولًا على ظهر جدارَين متآكلين، وتنبعث فيه رائحةُ غيابٍ قديمٍ يصعب وصفه.
تقدّم بخطى متأنّية، وفي داخله شعورٌ بأنّ المكان لم يُشيَّد من حجر، بل من ذاكرةٍ تُعيد تشكيل نفسها كلّما مرّ بها عابر. وكانت هناك نافذةٌ عالية، مُغطّاة بستارٍ رماديّ يرفرف رغم سكون الهواء. توقّف أمامها شاعِرًا بأنّ ثمّة عينًا خلف النسيج تراقبه، لا لحراسةٍ ولا لتحذير، بل لأنّها تنتظره تحديدًا.
وفجأةً، انفتح الستارُ كأنّه يُفرِغ ضوءَه إلى الداخل.
لم يظهر وجهٌ ولا يد، بل طَيْفٌ يتدلّى كأنّه يلتقط اللحظةَ ذاتَها من الزمن.
تراجع أبو سلمان خطوة، لكنّ الطيف تمدّد نحوه، لا ليخيفه، بل ليختبر مقدار تردّده.
قال صوتٌ خافت، غير صادرٍ من النافذة، بل من أعماق الممرّ نفسه:
«ما الذي جاء بك الآن؟»
لم يُجب؛ فقد كانت الكلمات أثقل من أن تنهض، ولم يَبقَ في داخله سوى شعورٍ بأنّ السؤال ليس استفسارًا، بل امتحانٌ لجرأةٍ تاهت منه منذ أعوام.
مدّ الطيف إصبعًا طويلًا بلا ملامح، وأشار إلى جهةٍ خلفه.
التفت أبو سلمان، فإذا بالممرّ قد اختفى، وحلّ محلَّه رواقٌ طويلٌ يتلوّن بحسب نظراته: فإذا حدّق فيه أصبح أزرقَ باردًا، وإذا أشاح بعينيه تحوّل
إلى سوادٍ هادئ يشبه وادٍ عتيق.
تردّد لحظةً، شاعِرًا بأنّ الرواق ليس مكانًا يمرّ منه المرء، بل حالةٌ يعبرها. ومع ذلك، تقدّم.
كانت لكلّ خطوةٍ صدى لا يسمعه إلّا داخله، كأنّ الرواق يكتب سيرته بخطى خفيفة.
وعند نهايته وجد بابًا بلا قفلٍ ولا مقبض؛ بابًا لا ينفتح إلّا لمن يعترف بما خسره.
قال الصوت مرّةً أخرى، لكنّه هذه المرّة أكثر وضوحًا، كأنّ السقف نفسه ينطق:
«ادخل… فلن تجد ما تركتَه، لكنّك ستعثر على ما كان ينتظرك منذ زمن.»
لم يسأل عمّا يعنيه الصوت.
فتح الباب، فانساب الضوءُ عليه مثل ماءٍ يطرد الغبار، واكتشف أنّ الخطوة الأولى في عالمٍ جديد ليست جرأةً، بل اعتراف: أنّه كان، طوال حياته، يفتّش عن بابٍ لا يُفتح إلّا لمن يصل متأخّرًا بما يكفي ليعرف نفسه.
ومضى…
يتبع طيفه، لا ليهرب من الماضي، بل ليدخل ما لم يجرؤ يومًا على تخيّله.
