السبت ١٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم سليمان عبدالعظيم

حكايات العم نجيب عن أولاد حارتنا

استطاع نجيب محفوظ عبر رحلته الإبداعية الطويلة التي امتدت لمسافة تتجاوز سبعة عقود من الزمان أن يبدع عالما روائيا رحبا مترامي الأطراف. ويمكن القول أنه لم يوجد روائي عربي وحيد قد نذر نفسه لفن الرواية بمثل هذا الدأب وهذا التجريب المتواصل، مثلما فعل نجيب محفوظ. وعبر معظم رواياته التي بدأها بأعماله التاريخية، عبث الأقدار ورادوبيس وكفاح طيبة، في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، مرورا بأعماله الأخرى التي اشتملت على السياسي والاجتماعي والديني مثل الثلاثية وأولاد حارتنا وثرثرة فوق النيل واللص والكلاب وميرامار والكرنك والحرافيش وزقاق المدق، وانتهاء بتلك الأعمال السياسية المباشرة مثل يوم قتل الزعيم، اتسم مشروع محفوظ الروائي بالسعى لبناء مجتمع عادل يواجه الظلم والبغى والعدوان والفقر والعوز والحاجة. فالرجل كان ينشد عالما جميلا إنسانيا خاليا من القبح بأشكاله المختلفة. ذلك القبح الذي يؤسس له، ويراكم عليه، الأغنياء ضد الفقراء، والظالمون ضد المظلومين، والأقوياء ضد الضعفاء، والحكام ضد المحكومين، والفتوات ضد الحرافيش، والرجال ضد النساء.

لم يحد محفوظ عبر معظم رواياته التي كتبها، وإن بنسب مختلفة، وبنضج روائي جمالي متفاوت، عن الدعوة لقيم العدل والتسامح والمساواة. وربما لا يوجد في عالمنا العربي الحديث روائي عربي واحد قد غزل رواياته، بتنويعات مختلفة، حول موضوع العدل والحرية والمساواة، مثلما فعل محفوظ عبر تلك الجماليات المتنوعة والمتعددة التي جعلت القراء العرب لا يملون متابعة أعماله المختلفة عبر عقود طويلة من الزمان.

وربما تظهر هذه القيم بشكل واضح لا لبس فيه من خلال روايته الشهيرة أولاد حارتنا 1959، التي أثارت الكثير من الجدل منذ لحظات ظهورها الأولى في صورة حلقات على صدر جريدة الأهرام المصرية الشهيرة. جاءت الرواية لترصد قصة الكون على خلفية الحارة المصرية وضمن حدودها الجغرافية الضيقة، حيث تستدعي العالم منذ بدء الخليقة وظهور الخلافات الأولى بين قابيل وهابيل، مرورا بخروج آدم من الجنة وبداية الآلام والصراعات التي ارتبطت بأحفاده منذ خروج أبيهم من الجنة وحتي الآن. كما تستدعي الرواية قصص الأنبياء المختلفة وأدوارهم في تحقيق العدل الإنساني ضد الفتوات الذين استحكموا في عباد الله الغلابة، وأذاقوهم ويلات القمع والقهر والمهانة. لقد نقل محفوظ قصة الكون منذ بدء الخليقة، بمحاكاة تسجيلية دقيقة ورائعة وجذابة إلى حارته التي استطاع باقتدار مذهل أن يمسك بتلابيب تفاصيلها ويحرك شخوصها كيفما يريد.

لقد غلبت الأحداث الدينية بسرديتها التاريخية المتعارف عليها بين الأديان السماوية الثلاثة على متن الرواية، وهو الأمر الذي لم يعجب البعض، وأدى إلى وقف استكمال نشر الرواية عبر صفحات جريدة الأهرام المصرية، كما أدى فيما بعد إلى منع صدورها في مصر حتى الآن، رغم طباعتها خارجها. لقد اتكأت الرواية على هذا المحكي الديني من أجل أن تصل لضمانة حقيقية تصون قيم العدل والحرية والتسامح، تتمثل في ضرورة المزج بين الدين والعلم، بين الإيمان وإعمال العقل. لا ترفض الرواية الدين، بقدر ما تعلي من شأنه، بل وتعظم دور الأنبياء في صيانة قيم العدل والتسامح، ومقاومة القمع والقهر، والعمل على تحقيق المساواة السياسية والاقتصادية بين البشر بما يقيهم وضعية الإذلال المعنوي والمادي على السواء. فالرواية لم تقف فقط عند جانب المساواة السياسية، بقدر ما وقفت أيضا، وعبر مقاطع طويلة منها للحديث عن الفقر ودوره في إزهاق روح البشر، وتدمير أجمل ما فيهم من نبل وخير وتسامح.

ويأتي إعلاء الرواية للأنبياء من خلال التركيز على جانبين على درجة كبيرة من الأهمية، أولهما أنهم دعاة التغيير والحض على العدل والمساواة والحرية بين البشر، وثانيهما أنهم، وهم الملهمين من عند الله، يكشفون بطهرانيتهم وصفائهم البشري ضعف الأتباع المحيطين بهم، الذين ما أن يرحل هؤلاء الأنبياء عن عالمنا، يعودون سيرتهم الأولى إلى حالة الإقتتال فيما بينهم، حيث يعود الفقر والقهر والطغيان مادة حياة البشر، وتعود الأوضاع إلى سيرتها الأولى. من هنا، فإن الرواية لا تُحمل الأديان مسئولية ما يحدث في عالمنا منذ بدء الخليقة وحتى الآن، وهو ما اعتقده بعض من تسرعوا في قراءة الرواية، وحكموا عليها من منظور ديني أخلاقي ضيق، بقدر ما تُحمل الأتباع والبشر مسئولية تفشي القهر والغدر والعدوان. ولعل هذا هو ما يمثل رابطا هاما لمعظم أعمال محفوظ التي يؤكد من خلالها أن خطورة الأوضاع وتفشي سوءاتها لا يعود فقط إلى سطوة الفتوات وقمعهم للضعفاء واستغلالهم لهم، لكنه يعود أيضا، في جانب كبير منه، إلى هؤلاء الضعفاء أنفسهم، وتنابذهم وتشاحنهم وتطاحنهم فيما بينهم، بل وخيانتهم لبعضهم البعض، وتوحدهم في أحيان كثيرة مع تسلط الفتوات وجبروتهم.

هذا التوحد والضعف، وربما الضعة من جانب الفقراء والضعفاء، ربما هو الذي جعل محفوظ ينهي روايته بنبي غير معروف في التسلسل التاريخي للأنبياء، ألا وهو العلم. فالإيمان لوحده، رغما عن أهميته، غير كاف لإخراج هؤلاء الضعفاء من وهدة الفقر من جانب، ومن حالة توحدهم بالأقوياء المتسلطين من جانب آخر. ولا ينم هذا الموقف عن توجه صدامي يضع الدين في مواجهة العلم من ناحية، كما لا ينم عن موقف تلفيقي يجمع بين الدين والعلم من ناحية أخرى. لكنه ينم عن فهم عميق لواقع البنية الإنسانية بعامة، وواقع البنية الإسلامية بخاصة التي لا يمكنها أن تحيا بتلك المواجهة الحادة بين الدين من ناحية والعلم من ناحية أخرى.

فمحفوظ في روايته، أضاف العلم إلى مسيرة الأنبياء، لأنه بدون هذا العلم لن نستطيع فهم الدين في أرقى صوره وأعظم تجلياته، ولن نستطيع أن نبني مجتمعا يطمأن فيه البشر على حاضرهم ومستقبلهم، على أنفسهم وعلى ذويهم. مجتمع لا يخشى فيه البعض من البعض الآخر، ولا يستحكم فيه الأقوياء على خلق الله الضعفاء المقهورين، مجتمع يتحول فيه هؤلاء المقهورون إلى قوى وعى حقيقية تستطيع أن تميز بين من يعمل من أجل مصالحهم، ومن يعمل من أجل استلابهم واستغلالهم. وعند هذا المستوى من الفهم العلمي الحقيقي تتحول طاقة العلم والمعرفة لتصب في درب الإيمان، بدون أن يكون الإيمان قرين الخضوع والفقر والجهل والإستلاب، وعند هذه المستوى تبرز أيضا عظمة رواية أولاد حارتنا التي خفيت قيمتها وعمقها عن متعهدي الأخلاق وحراس الفضيلة.

رحل العم نجيب عن عالمنا وهو يدعو لإعلاء هذه القيم الإنسانية، رحل ممتلئا ببساطة المثقف وعمقه وحكمته، رحل وهو يغالب ذلك القبح الهائل الذي يدفع ثمنه الفقراء والضعفاء والمقهورين في كل مكان عبر حكايات الحارة التي لم تنتهي من مخيلته ومن قبسه ومن روحه الفضفاضة الوثابة. رحل العم نجيب تاركا رصيدا هائلا لدى المثقفين البسطاء المتوحدين مع الفقراء والمعدمين، هذا الرصيد الذي يمنحنا القدرة على نبذ القبح وإعلان راية الجمال والحب والعدل والمساواة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى