الجمعة ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم مصطفى معروفي

خليل مطران

شــرِّدُوا أَخْيَارَهَا بَحْراً وَبَرا
وَاقْــتُلوا أَحْرَارهَا حُرّاً فَحُرَّا
إِنَّــما الــصَّالِحُ يَــبْقَى صَالِحاً
آخِرَ الدَّهْرِ وَيَبْقَى الشَّرُّ شَرَّا
كَــسّرُوا الأَقْلامَ هَلْ تَكْسِيرُهَا
يمْنَعُ الأَيْدي أَنْ تَنْقُشَ صَخْرَا
قَــطِّعُوا الأَيْــديَ هَلْ تَقْطِيعُها
يَمنَعُ الأَعْينَ أَنْ تَنْظُرَ شَزْرَا
أَطْــفِئُوا الأَعْيُنَ هَلْ إِطْفَاؤُهَا
يمْنَعُ الأَنْفَاسَ أَنْ تصْعَدَ زَفْرَا
أَخــمِدُوا الأَنْفَاسَ هَذَا جُهْدُكمْ
وَبِــه مَــنْجاتُنَا مِــنْكُمْ فَشكْرَا

خليل مطران

خليل مطران(1872 ـ 1949) ولد شاعرنا الكبير في مدينة بعلبك بلبنان، وتلقى تعليمه هناك، وهاجر فيما بعد إلى فرنسا وهناك أخذ يطلع على الأدب الغربي،فقرأ فكتور هوغو وغيره من أدباء الغرب. لقب مطران ب"شاعر القطرين"والقطران المعنيان هنا هما لبنان ومصر، وبعدما رحل الشاعران العظيمان شوقي وحافظ إلى دار البقاء لقب مطران ب"شاعر الأقطار العربية"، وهو كان يمثل معهما ثالوثا ذا قيمة عالية في الشعر.

لخليل مطران رؤيته الخاصة للشعر فهو كان يقرضه ترضية للنفس، وتربية للناس، وكان لا يستنكف أن يستعمل الألفاظ والتراكيب بكل جرأة وإقدام لا يخاف استخدامها على غير المألوف. وفي كل ذلك كان صادقا في تمثيله للقومية العربية، حتى أن شاعرا كبيرا هو صالح جودت قال عنه في هذا الصدد:(إنه ـ مطران ـ أصدق الشعراء تمثيلا للقومية العربية).

ومطران شاعر رومانسي حتى النخاع، وعبد ربه وهو في سنوات الدراسة والتحصيل العلمي لم يطلع بادئ الأمر على مطران من خلال المقررات الدراسية وإنما من خلال صديق كنت أتحدث معه عن الشعر فقال لي:

أنا أحب أولا وقبل كل شيء الشاعر خليل مطران وكم تعجبني قصيدته "المساء" التي يقول في مستهلها:

داءٌ ألمَّ فَخِلْتُ فِيــــــــهِ شَفَائِي
مِنْ صَبْوَتِي فَتَضَاعَفَتْ بُرَحَائِي

وفيها يقول:

يَــا لَــلضَّعِيفَيْنِ اسْــتَبَدَّا بِــي وَمَا
فــي الــظُّلْمِ مِثْلُ تَحَكُّمِ الضُّعَفَاءِ
قَــلْبٌ أَذَابَــتْهُ الــصَّبَابَةُ وَالْجَوَى
وَغِــلاَلَــةٌ رَثَّـــتْ مِــنِ الأَدْوَاءِ
وَالـــرُّوْحُ بــيْنَهُمَا نَــسِيمُ تَــنَهُّدٍ
فــي حَاليَ التَّصْوِيبِ وَالصُّعَدَاءِ
وَالــعَقْلُ كَالمِصْبَاحِ يَغْشَى نُورَهُ
كَــدَرِي وَيُضْعِفُهُ نُضُوبُ دِمَائِي
هَـــذَا الَّــذِي أَبْــقَيْتِهِ يَــا مُــنْيَتي
مِــنْ أَضْلُعِي وَحَشَاشَتي وَذَكَائِي
عُمْرَيْنِ فِيكِ أَضَعْتُ لَوْ أَنْصَفْتِني
لـــمْ يَــجْدُرَا بِــتَأَسُّفِي وَبُــكَائِي
عُــمْرَ الْفَتى الْفَانِي وَعُمْرَ مخَلَّدٍ
بِــبــيَانِهِ لَـــوْلاَكِ فــي الأَحْــيَاءِ

إلى آخر القصيدة وهي إحدى روائع مطران وإحدى عيون الشعر العربي الحديث.

وأصدقكم القول بأن لفظة "البرحاء" في القصيدة شكلت عندي هاجسا لأنني كنت أجهل معناها حتى تم لي شرحها.ومن ذلك العهد صار اسم خليل مطران لا يفارق مخيلتي فحفظت له قصيدة( المساء) والأبيات المدونة في أول المقال المتواضع هذا،كما حفظت أبياته الكاملة التي قالها عندما هدده رئيس وزراء مصر بالنفي آنذاك وهو مصطفى فهمي.

وهذه الأبيات هي:
أَنَا لاَ أَخَافُ وَلاَ أُرَجِّي
فَرَسِي مُؤَهَّبَةٌ وَسَرْجِي
فَــإِذَا نَــبَا بِــيَ مَتْنُ برٍّ
فَــالــمَطِيَّةُ بَــطْنُ لُــجِّ
لاَ قَــوْلَ غَيْرَ الْحَقِّ لِي
قَوْلٌ وَهَذا النَّهْجُ نَهْجِي
أَلْوَعْدُ والإيعَادُ مَا كَانَا
لَـــدَيَّ طَــرِيــقَ فُــلْجِ

عمل مطران في الصحافة فعمل محررا في جريدة "الأهرام" وأنشأ "المجلة المصرية" كما أنشأ جريدة "الجوائب المصرية"
ومدرسة مطران هي في الحقيقة غير مدرسة شوقي وحافظ، فشاعرنا عندما نضجت شاعريته اتخذ لنفسه مدرسة الرومانسية ملاذا واستقر بها، وهذه المدرسة أثرت في شعراء يشار إليهم بالبنان من أمثال إبراهيم ناجي ومحمود طه وأحمد زكي أبي شادي، وربما انضم إلى هؤلاء أيضا شعراء المهجر.

وتجدر الإشارة إلى أن الأديب والمفكر الكبير طه حسين قال مخاطبا إياه:

إنك زعيم الشعر العربي المعاصر، وأستاذ الشعراء العرب المعاصرين.

وقال عنه محمد حسين هيكل:

عاش مطران للحاضر في الحاضر.

وخلاصة القول أننا عندما نتحدث عن مطران نكون في الواقع نتحدث عن الشعر ذي الرونق والأصالة والمتانة، كما نتحدث عن التجديد فيه.

ونختم القول في مطران بهذه القصيدة الماتعة التي تفيض عذوبة وفخامة،يقول مطران:

إِنَّــا وَجَــدْنَا وَقَــدْ طَــالَ المَطَافُ بِنَا
فِــي طُولِ كَرْمَ رِجَالَ الطَّوْلِ وَالكَرَمِ
حَــيِّــاهُمُ اللهُ مَـــا أَحْــلَــى شَــمَائِلَهُمْ
وَمَــا أجَــلَّ الــذِي فِــيهِمْ مِــنَ الشِّيَمِ
مــا زَالَــتِ الــقُدْوَةُ الــحَسْنَاءُ قُدْوَتَهْمْ
لِــقَــوْمِهِمْ بِــثَــبَاتِ الـــرَّأْيِ وَالْــهِمَمِ
بِــصَوْنِهِمْ مُــلْكَهُمْ صَــانُوا حَــقِيقَتَهُمْ
مِنْ أَنْ تُرَى السَّادَةُ الأمْجَادُ فِي الخَدَم
هَلْ مَسْقِطُ الرَّأْسِ مُغْنٍ إذْ نَكُونُ وَمَا
مِــنَّا امْــرُؤٌ فِــي ثَــرَاهُ ثَــابِتُ الْــقَدَمِ
حَــــقُّ الْــــبِــلاَدِ كُــــلُّ تَــفْــدِيَــةٍ
فِــي الــطَّارِئَاتِ مِنَ الأَحْدَاثِ وَالأُزُمِ
بِــالْــفِعْلِ نَــكْــمِلُهُ لاَ الْــقَوْلِ نُــجْمِلُهُ
وهَـــلْ غَــنَاءٌ عَــنْ الأَفْــعَالِ بِــالْكَلِمِ
نَــفْدِيكَ بِــالمَالِ وَالأَرْوَاحِ يَــا وَطَــناً
شَــاعَتْ مَــآثِرُهُ الــغَرَّاءُ فِــي الأُمَــمِ
قَــدْ كُــنْتَ مُــنْبَثَقَ الأنْــوَارِ مِــنْ قِدَمٍ
وَلَــمْ تَــزَلْ مُــلْتَقَى الأَبْصَارِ مِنْ قِدَمِ
فَــاسْــلَمْ وَعِـــزَّ بِــابْــنَاءِ غَــطَــارِفَةٍ
مَــا تَــسْتَدِمْهُ بِــهِمْ مِــنْ رفْــعَةٍ يَــدُمِ
بِــالحَزْمِ وَالْــعَزْمِ فِــي حَلٍّ وَمُرْتَحَلٍ
وفَّــوْكَ مَــا يَــقْتَضِيهِ الــرَّعْيُ لِلذِّمَمِ
مَـــنْ يَــسْتبِيحُكَ وَالآسَــادُ رَابِــضَةٌ
إنَّ الــثَّــعَالِبَ لاَ تَــدْنُــو مِــنَ الأَجَــمِ
اللهم اغفر لنا إسرافنا في أمرنا وما أنت به أعلم منا.​


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى