

دعبل الخزاعي
دعبل الخزاعي (148ـ 246 هجرية) هو شاعر من أبرز شعراء العصر العباسي، وهذا الشاعر له بيتان من أجمل الأبيات التي أحفظها منذ زمن، ويحلو لي أن أرددهما بمناسبة وأحيانا حتى من دون مناسبة وهما:
ما أَكثَرَ الناسَ لا بَل ما أَقَلَّهُمُـو
الــلَهُ يَــعلَمُ أَنّــي لَــم أَقُل فَنَدا
إِنّي لَأَفتَحُ عَيني حينَ أَفتَحُها
عَلى كَثيرٍ وَلَكِن لا أَرى أَحَـــدا
ودعبل هذا عجيب أمره بين الناس فعلا،فهو يؤثر عنه أنه قال يوما:
أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لست أجد أحداً يصلبني عليها.
وبسبب هذه الجرأة في سلوكه وفي سلاطة لسانه كان الناس يتحاشونه حتى يسلموا من هجائه، حتى أن الوزير محمد بن عبد الملك الزيات كان يهابه لما رآه يحمل خشبة على عنقه ويطلب من يصلبه عليها.
ويقال بأنه هجا الخليفة المامون حتى قبيلته خزاعة لم تسلم من لسانه فهجاها، ولكن لما هجا مالك بن طوق أحد الولاة على الموصل بهذه الأبيات:
إِنَّ اِبنَ طَوقٍ وَبَني تَغلِبٍ
لَو قُتِّلوا أَو جُرِّحوا قَصرَه
لَــم يَأخُذوا مِن دِيَةٍ دِرهَماً
يَوماً وَلا مِن أَرشِهِم بَعرَه
دِمــائُهُم لَــيسَ لَــها طالِبٌ
مَــطلولَةٌ مِــثلَ دَمِ العُذرَه
وُجوهُهُم بيضٌ وَأَحسابُهُم
ســودٌ وَفــي آذانِهِم صُفرَه
أرسل إليه من طعنه بحربة مسمومة في قدمه فمات جراء تلك الطعنة.
وكان دعبل صديقا للشاعر مسلم بن الوليد ويعرض شعره عليه، وكان مسلم يأمره بعدم عرض شعره على الناس لأنه لم ينضج بعد، إلى أن قال بيتين فعند ذلك أخبره مسلم بأن يعرض ما يقوله من شعر على الناس،و البيتان هما:
أَيــنَ الــشَّبابُ؟ وأَيَّــة ٌ سَلَكَا
لاَ، أَينَ يُطْلَبُ؟ ضَلَّ بَلْ هَلَكا
لا تَــعجَبي يــا سَلمُ مِنْ رَجُلٍ
ضحكَ المشيبُ برأسهِ فبكى
المعروف عن دعبل أنه كان متشيعا لآل البيت وكان لا يرى الخلافة إلا فيهم والولاية إلا لهم، وقد قال فيهم قصيدة تعد من عيون الشعر ومن روائعه التي لا تفنى مع الزمن،وهي القصيدة التي مطلعها هو:
مَدَارسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِن تلاوة
ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرصاتِ
وهذه القصيدة أنشدها الشاعر أمام الخليفة المامون فبكى هذا حتى تبللت لحيته وجرت الدموع على نحره.
ولمامات الخليفة المامون خلفه المعتصم وكان يكن البغض لدعبل فقرر التخلص منه، ففر دعبل، وهجا المعتصم وأقذع فيه الهجاء، ومن هجائه فيه قوله:
مُلوكُ بَني العَبّاسِ في الكُتبِ سَبعَةٌ
وَلَــم تَــأتِنا عَــن ثــامِنٍ لَــهُمُ كُتبُ
كَذَلِكَ أَهلُ الكَهفِ في الكَهفِ سَبعَةٌ
خِــيــارٌ إِذا عُــدّوا وَثــامِنُهُم كَــلبُ
وَإِنّــي لَأُعــلي كَــلبَهُم عَنكَ رِفَعَةً
لِأَنَّــكَ ذو ذَنــبٍ وَلَــيسَ لَــهُ ذَنــبُ
ولما مات المعتصم وخلفه الواثق قال دعبل:
الــحمد لــله لا صبرٌ ولا جلدُ
ولا عزاء إذا أهل البلا رقدوا
خليفة مات لم يحزن له أحد
وآخر قام لم يفرح به أحدُ
ولدعبل في الفخر بنفسه هذا البيتان الجميلان الطريفان.
إِذا نَــبَحَ الأَضيافَ كَلبي تَصَبَّبَت
يَنابيعُ مِن ماءِ السُرورِ عَلى قَلبي
فَــأَلقاهُمُ بِــالبِشرِ وَالــبِرِّ وَالقِرى
وَيَقْدُمُهُم نَحوي يُبَشِّرُني كَلبي
وأختم القول في الشاعر دعبل الخزاعي بهذه القصيدة التي يتبين من خلالها مدى تمكنه من اللغة واستبصاره بالشعر ومدى معرفته بأمور الحياة:
بــانَت سُــلَيمى وَأَمــسى حَبلُها اِنقَضَبا
وَزَوَّدوكَ وَلَـــم يَــرثوا لَــكَ الــوَصَبا
قــالَت سَــلامَةُ أَيــنَ الــمالُ قُــلتُ لَــها
الــمالُ وَيــحَكُ لاقــى الحَمدَ فَاِصطَحَبا
الــحَمدُ فَــرَّقَ مــالي فــي الحُقوقِ فَما
أَبــقَــينَ ذَمّـــاً وَلا أَبــقَــينَ لــي نَــشَبا
قــالَت سَــلامَةُ دَع هَــذي الــلَبونَ لَــنا
لِــصِــبيَةٍ مِــثــلَ أَفــراخِ الــقَطا زُغُــبا
قُــلــتُ اِحــبِــسيها فَــفــيها مُــتعَةٌ لَــهُمُ
إِن لَــم يُــنَخ طــارِقٌ يَبغي القِرى سَغِبا
لَــمّا اِحــتَبى الضَيفُ وَاِعَتَلَّت حَلوبَتَها
بَــكــى الــعِيالُ وَغَــنَّت قِــدرُنا طَــرَبا
هَــذي سَــبيلي وَهَــذا فَــاِعلَمي خُــلُقي
فَاِرضَي بِهِ أَو فَكوني بَعضَ مَن غَضِبا
مــا لا يَــفوتُ وَمــا قَــد فــاتَ مَــطلَبُهُ
فَــلَــن يَــفــوتَني الــرِزقُ الَّــذي كُــتبا
أَســعــى لِأَطــلُــبَهُ وَالــرِزقُ يُــطلِبُني
وَالــرِزقُ أَكــثَرُ لــي مِــنّي لَــهُ طَــلَبا
هَــل أَنــتَ واجِــدُ شَــيءٍ لَو عُنيتَ بِهِ
كَــالأَجــرِ وَالــحَمدِ مُــرتاداً وَمُــكتَسَبا
قَــــومٌ جَــوادُهُــمُ فَـــردٌ وَفــارِسُــهُم
فَـــردٌ وَشــاعِــرُهُم فَـــردٌ إِذا نُــسِــبا
اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل، وسوء العمل.