الأحد ١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم سليمان عبدالعظيم

رواية "شيكاجو" وتنميط العربي المسلم

يحمل المصريون معهم همومهم في أي مكان يذهبون إليه. يحملون معهم مشاكلهم وأفراحهم وأتراحهم، وحتى طقوسهم اليومية المعتادة، وأنماطهم الغذائية التي يفتقدونها، مثل الفول والطعمية. فالبعض منهم يمسح المنطقة التي يعيش فيها في الغُربة من أجل البحث عن مطاعم شرقية تبيع الفول والطعمية. كما أن الكثيرين منهم يحملون معهم أشرطة أم كلثوم وعبد الحليم حافظ والشيخ متولي الشعراوي، وكأن العالم قد خلا من أشكال الطعام الأخرى، وكأنه قد خلا أيضاً من المطربين والمطربات والشيوخ الآخرين.

إضافة إلى ذلك، فإن البعض منهم يحمل معه سجادة الصلاة التي إعتاد الصلاة عليها منذ الصغر، وكأن الله لن يقبل صلاته إلا وهو يسجد على السجادة نفسها في كل زمان وكل مكان. ومن غرائب الأمور، أن المصريين ينقلون معهم مشاكلهم وصراعاتهم كما إعتادوا أن يمارسونها في أوطانهم، ويتناسون أنهم في بلدان غريبة وبين أنماط جديدة من البشر، حيث لا يهمهم فضائحهم ومشاجراتهم أمام الآخرين. أغلب الظن أن ذلك يذكرهم بأنهم مازالوا يعيشون ويتشاجرون بأصواتهم العالية بين رحاب الوطن، وآخر شيئ يهمهم هو نظرة الآخرين لهم، وأحكامهم عليهم.

لا يتوقف ذلك فقط على المصريين العاديين المهاجرين، بل إنه ينتقل أيضاً إلى المؤسسات الرسمية المصرية الخارجية. أذكر أنني قد زرت القنصلية المصرية في واشنطن لإنهاء بعض الأوراق الرسمية، وما أن دلفت من بوابة المبنى التاريخي الأنيق، حتى شعرت بأنني أتحرك بين جنبات إحدى المؤسسات الحكومية المصرية، بطابعها البيروقراطي العتيق، وأصوات موظفيها العالي، وأكواب الشاي المتناثرة هنا وهناك، ورائحة السجائر التي تشمل أرجاء المكان. حتى العاملات الأمريكيات إكتسبن طابع المكان، فلم أشعر بوجود فارق كبير بينهن وبين باقي الموظفات المصريات الأخريات.

في رواية "شيكاجو" للروائي المصري علاء الأسواني نعايش شريحة خاصة جداً من المصريين، حينما ينتقلون ويعيشون في قلب مدينة شيكاجو الأمريكية. نعايشهم ونلمس كيف تنتقل معهم أفراحهم وأحزانهم، حتى وهم ينجحون في الخارج تظل عيونهم معلقة بالوطن، ومشدودة نحوه. لا يعني ذلك أن الحب فقط هو لصيق هذا الإشتياق والتعلق بالوطن، لكن الكراهية أيضاً تعانق الكثيرين منهم، ضجراً من هذا الوطن الذي لفظهم، ودفعهم لهذا الخروج المهين.

في الرواية، التي يواصل من خلالها الأسواني، ما بدأه في روايته "عمارة يعقوبيان" من نقد للأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر، تنتقل مجموعة من المبعوثين المصريين لدراسة الطب في جامعة إلينوى، حيث يوجد قسم من أكبر أقسام علم الهستولوجي في العالم. "والهستولوجي كلمة لاتينية معناها علم الأنسجة: العلم الذي يستعمل الميكروسكوب في دراسة الأنسجة الحية، وهو يشكل أساس الطب لأن اكتشاف العلاج لأى مرض يبدأ دائماً بدراسة الأنسجة في حالتها الطبيعية" (الرواية ص 23). تدور أحداث الرواية حول هذه المجموعة من شباب الباحثين، ورحلة غُربتهم التعليمية في سبيل الحصول على درجة الدكتوراة، حيث ينقلون معهم هموم الوطن وهمومهم الشخصية على السواء. تبدو معاركهم ومشكلاتهم واضطراباتهم لا تختلف عن تلك التي تركوها وراء ظهورهم، وبشكلٍ أكثر دقة حملوها معهم، ولم يفارقونها.
تبدو أحداث الرواية متقاطعة ومتشابكة زمانيا ومكانيا. فالزمن يبدو زمن هؤلاء المبعوثين، هؤلاء الشباب الجدد الراغبين في الحصول على درجة الدكتوراة من واحدة من أرقى الجامعات الأمريكية. هو زمن مابعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، زمن المواجهة بين أمريكا من ناحية، وبين العرب والمسلمين من ناحية أخرى، زمن الإستعلاء الأمريكي الإمبريالي. لكن الزمن لا يقف فقط عند مابعد أحداث سبتمبر، لكنه يتحرك ذهاباً وإياباًَ بين الماضي والحاضر، الماضي والحاضر الأمريكي، والماضي والحاضر العربي. واستخدام كلمتي ماضي وحاضر هنا، يتم وفقاً للتقسيمات الفيزيقية للزمن، لكن واقع الزمن في الرواية رغم وضوح تلك الإرتدادات بين الماضي والحاضر، يبدو مساحة واحدة عريضة ومتسعة، عرض وإتساع شخوص الرواية.

فالزمن الحاضر لجيل المبعوثين الشباب، يقابله زمن آخر ماضي وحاضر يتعلق بجيل الأساتذة، أكثر إتساعاً من زمنية جيل الشباب بالمعنى الفيزيقي المتعين فقط للزمن، أما الخبرات والممارسات والتعارضات الإنسانية فإنها مفتوحة على كل الأزمنة بغض النظر عن المواضاعات الفيزيقية المتعينة. ولعل ذلك ماجعل قيمة الزمن في الرواية تتكشف من خلال عمق الشخصيات وحجم اشتباكاها وصراعاتها مع العالم المحيط، وليس بالعمر الزمني المادي المتعين.

كما أن المكان لا يقف فقط عند ولاية شيكاجو رغم أنها المركز الرئيس للسرد، لكنه أيضاً ذلك المكان المتعدد المترامي الأطراف فهو يصل لشيكاجو الماضي، زمن الهنود الحمر في القرن السابع عشر، لينتقل لشيكاجو الحاضر زمن ناطحات السحاب العملاقة، وزمن التفرقة العنصرية الأمريكية البغيضة ضد السود، كما يصل لمدينة طنطا المصرية البسيطة، مصحوباً بالكثير من تفاصيل الأماكن المصرية. هناك عشقٌ خاص بالمكان، سواء أكان مكاناً كبيراً متسعاً مثل ولاية شيكاجو، أو كان مكاناً صغيراً محدوداً مثل كلية الطب بجامعة إلينوي. واللافت للنظر هنا أن المشترك بين كافة الأزمنة وكافة الأمكنة هو الإنسان الذي يواجه الظلم الاجتماعي والإضطهاد السياسي، سواء أكان في زمن أبعد، أو في الزمن الحاضر، سواء أكان في شيكاجو الهنود الحمر، أو في شيكاجو ناطحات السحاب، أو في طيات سجون التعذيب المصرية.

خلف كل هذا الإمتداد الزمني، وهذا التنوع المكاني، تمنحنا الرواية في مناطق كثيرة منها، خصوصاً تلك التي يبتعد فيها الأسواني عن كتابته السياسية المباشرة والفجة في الوقت نفسه، يكمن رفض ونبذ الإضطهاد السياسي في كافة صوره وأشكاله، بوصفه الرابط الهام الذي يمثل مركزاً حيويا للرواية. فالرواية تُفتتح بمقدمة تاريخية بسيطة وموجزة عن نشأة مدينة شيكاجو، وتتواصل في السرد التاريخي لتكشف لنا عن مدينة عظيمة خلابة باهرة، لا لشيئ إلا لكي تصل بنا إلى فضح التاريخ الأمريكي القائم على التفرقة العنصرية ضد السود، وضد الهنود الحمر على السواء. كما أنها تقدم لنا شريحة من المبعوثين المصريين الجدد، لكى تقدم لنا من خلالهم أنماطاً أخرى من المهاجرين المصريين الذين هاجروا في ستينيات القرن الماضي، إما هرباً من ظلم سياسي أو إضطهاد ديني أو ظلم اجتماعي.

تقدم لنا الرواية جيلين من المصريين، أحدهما هو جيل الشباب الذين يبدأون حياتهم العملية، ويختبرون توجهاتهم الأيديولوجية والفكرية، أما الآخر فهو جيل الأساتذة الكبار، الذين هاجروا في الستينيات، وإنخرطوا في الحياة الأمريكية، وحصلوا على شهادة الدكتوراة، ومارسوا العمل الجامعي لمدة طويلة. ولا تقف المسألة في الرواية عند حدود جيل المهاجرين المصريين فقط، لكنها تتعدى ذلك إلى مجموعة أخرى من الأساتذة الأمريكيين المتنوعي المشارب والتوجهات، إلى الدرجة التي يمكن معها القول أن بعضهم، ومن خلال رفضه للممارسات الأمريكية الرأسمالية المبتذلة، هو مهاجر أيضاً داخل وطنه.

نحن أمام رواية يتقابل فيها جيلان، أحدهما في مقتبل حياته، والآخر في نهايتها، حيث نقف على استمرارية المشكلات، سواء العالمية أو القطرية، واستمرارية ذلك التنوع الفكري الأيديولوجي الذي إما أن يتوحد بالنظم السياسية الحاكمة، وإما أن يرفضها ويواجهها ويقاومها، ويدفع في سبيل ذلك عظيم الأثمان. هناك مهاجرون حقيقيون بالجسد مثل هؤلاء المصريون الذين يعانون في الوطن الأم ويعانون في بلاد الغربة، وهناك مهاجرون داخل مجتمعاتهم، مثل هؤلاء الأساتذة الأمريكيون الذين يعانون من وطأة الإستلاب الرأسمالي الواقع عليهم.

تتحرك الرواية من خلال أربع شخصيات شبابية من المبعوثين، يمثلون الطبقة الوسطى المصرية بتنويعاتها المختلفة والمتباينة، بشموخها وانحطاطها، بمحافظتها التقليدية ورغبتها المتوهجة في التغيير والإرتقاء، بقناعاتها الراكدة وطموحاتها الساقطة، باستعلاءاتها النخبوية وبثوريتها الجامحة. وتشمل هذه الشخصيات طارق حسيب إبن اللواء حسيب مساعد مدير أمن القاهرة، وشيماء محمدي إبنة الأستاذ محمدي حامد مدير مدرسة طنطا الثانوية، وأحمد دنانة إبن الموظف الخاضع لزوجته الحاجة بدرية، وأخيراً ناجي عبدالصمد الناشط السياسي الذي رفضت الجامعة تعيينه. من خلال هذه الشخوص تقدم لنا الرواية عالماً إنسانيا دقيقاً يعكس حجم التناقضات الحادة التي تواجه المواطن المصري المعاصر. وهى تناقضات تلعب فيها الأخلاق والعادات والتقاليد والإنتهازية والواقع الاجتماعي الملتبس دوراً كبيراً، بحيث يمكن القول بأن هؤلاء الأفراد هم النتاج الطبيعي لهذا الواقع المهترئ، وبأن هذا الواقع الاجتماعي والسياسي لا يمكن له أن ينتج أفرادً آخرين غير هؤلاء الأفراد.

فنحن أمام طارق حسيب النابغة المتفوق علميا، العنيد والمرتبك أمام النساء والمهاجم لهن في الوقت نفسه، الذي نشأ في أحد أحياء القاهرة الراقية، ويرتاد أحد الأندية الراقية، ويرفض الزواج من بنات الأكابر. وشيماء محمدي التي تلاحقها الأخلاق والنواهي الدينية أينما ذهبت، لا تهتم بالرجال، تَوجُهها الرئيس نحو مذاكرتها وتفوقها، الأمر الذي أوصلها للتعيين معيدة في كلية الطب. وأحمد دنانة المدعي والعميل الأمني، رئيس إتحاد الدارسين المصريين في أمريكا، يجمع كل التناقضات في آن واحد، التدين المظهري العقيم، والإرتباط بالسلطة وخدمتها، والعمل مع رجال الأمن، والوشاية بزملائه، والجهل العلمي، والوصولية والإنتهازية في أسوأ تجلياتها ومظاهرها. وأخيراً ناجي عبد الصمد الثوري الذي كثيراً ما يحل مشاكله بالخمر والنساء، وإن كان يثرثر كثيراً حول أهمية الشعر بالنسبة له. والرواية تحتفي بوعى أو بغير وعى بناجي عبد الصمد، الذي لا نعرف ما إذا كان يمثل شخصية حقيقية أم لا. فبعد غلاف الرواية، وبعد صفحة الإهداء، هناك إشارة من جانب الكاتب علاء الأسواني، إلى أن "الصفحات والفقرات المطبوعة بالحرف السود المائل هى طبق الأصل، مذكرات ناجي عبد الصمد التي كتبها أثناء رحلته."

فالرواية، في واقع الأمر، تشتمل على روايتين، أولاهما ما كتبه الروائي علاء الأسواني عبر تلك الشخصيات المختلفة سواء العربية أو الأمريكية، والأخرى هي السيرة الذاتية التي كتبها المبعوث الثوري ناجي عبد الصمد، والتي تشتبك بدرجة أو بأخرى مع شخصيات الكاتب الأصلي للرواية، علاء الأسواني. وتضعنا الرواية في حيرة تشكيلية مقصودة، بين الجانب الروائي الحقيقي، الذي يهيمن عليه الراوي الرئيسي، بدرجات متفاوتة عبر صفحات وفصول الرواية، وبين الجانب السيري، الذي يتركه كلية لأحد المبعوثين الثوريين إلى أمريكا، وهو ناجي عبدالصمد. هل هذه السيرة الذاتية حقيقية أم لا؟ هل يوجد فعلاً ناجي عبدالصمد أم لا؟ وإذا كانت الإستعانة بالسيرة الذاتية لناجي عبدالصمد تمثل حيلة تشكيلية مقصودة من الراوي المهيمن في الرواية، فلماذا أفرد له تلك الإشارة اللافتة للنظر في أولى صفحات الرواية؟ لم تجب الرواية عن أي من هذه التساؤلات، وتركت الباب مفتوحاً لمختلف التأويلات، بحيث يمكن القول بأن ناجي عبدالصمد شخصية حقيقية، كما يمكن القول، في الوقت نفسه بأنه شخصية مُتخيلة مثلها مثل باقي شخصيات الرواية الأخرى. إضافة إلى إمكانية القول بأن شخصية ناجي عبدالصمد هي تنوع آخر لشخص الراوي المهيمن على الرواية، وإلا فلماذا بدا الإشتباك واضحاً بينه وبين ما يقوله الراوي الرئيسي المهيمن على صفحات الرواية. وسواء أكانت شخصية ناجي عبدالصمد حقيقية أو متخيلة، فإنها لم تكن عبئاً على متن الرواية بقدر ما تضافرت مع البنية الرئيسة لها، وأضافت الكثير من خلال شهادة ناجي عبدالصمد، أحد شخصيات الرواية الأكثر تميزاً والأكثر ثورية مقارنةً بباقي الشخصيات الأخرى الأكثر روتينية وتقليدية، والأكثر إنسجاماً مع الواقع السياسي والاجتماعي المعيش.

أمام هذه المجموعة الشابة المرتبكة اجتماعيا تواجهنا مجموعة الأساتذة المهاجرين، رأفت ثابت العنصري الكاره لمصر وللمصريين، والمتوحد مع الثقافة الأمريكية، ومحمد صلاح الذي يطارده ذلك الإحساس بالجبن والهروب من مصر، وكرم عبدالملاك دوس الجراح القبطي الناجح الذي يهيمن عليه ذلك الإحساس الموغل بالإضطهاد من قبل المسلمين. هؤلاء الثلاثة هاجروا منذ الستينيات، وحققوا نجاحات كبيرة في شيكاجو، لكنهم يعانون مرارة الهجرة وضغوطها، ويواجهون مشكلات عديدة سواء مع عائلاتهم، أو مع أنفسهم، أو مع ذكريات الوطن الماضية التي تطاردهم أينما ذهبوا، وكلما زادت نجاحاتهم وثرواتهم.

واللافت للنظر هنا أن الرواية تتشكل دائماً وأبداً من خلال ذلك التلاقي بين الرجل والمرأة، فلكل شخصية المعادل النسوي الخاص بها. وعلى أكتاف هذه العلاقات النسائية تتخيل شخوص الرواية إمكانية التخلص من الكثير من المشكلات السياسية والقضايا المجتمعية، رغم ما تُخلفه هذه العلاقات في النهاية من نتائج كارثية. فالرواية، رغم مساحة الشخصيات النسائية بها، ورغم حجم التشابكات العلائقية فيها بين الرجال والنساء، تكشف عن حجم خواء هذه العلاقات، وبأنها في النهاية لا تؤدي إلا إلى الإنفصال والكوارث، ليس بسبب من أطرافها، ولكن بسبب من طبيعة السياق المجتمعي الحاكم لها، والحافل بالأعراف البورجوازية في أشد تجلياتها ركوداً واستلاباً واغتراباً.

فأحمد دنانه العميل الأمني، نتاج هيمنة وقمع والدته، حينما يحاول أن يتزوج فإنه يُفرغ إستغلاله وإنتهازيته الهائلة على زوجته مروة نوفل إبنة أحد التجار الأثرياء بمنطقة الرويعي. ويصل به الأمر في النهاية إلى قبول تقديم زوجته لقمة سائغة لصفوت شاكر اللواء السابق، وأحد العاملين بمخابرات السفارة المصرية، حيث ينتهي بها الأمر بالهرب لمصر وطلب الطلاق الذي وجده فرصة للمساومة، حيث طلب مليون جنيه من حماه نظير الطلاق. كما أن الثوري ناجي عبد الصمد يحاول أيضاً أن يخفف من أعباء مشاكله بلقاءاته الجنسية الساخنة باليهودية وندي شور، التي تنتهي علاقته بها بالصدام والفراق، رغم إعتذاراته القوية لها. كما أن طارق حسيب يصالح المرأة من خلال جسد شيماء محمدي الفلاحة القادمة من طنطا، حيث تحمل منه في النهاية وينتهي بها الحال إلى إجراء عملية إجهاض.

ولا ينفصل حال الأساتذة في علاقاتهم النسوية عن حال الشباب، فالأستاذ محمد صلاح هجر مصر، بعد أن قالت له حبيبته الثورية في مواجهة فكرة هجرته لأمريكا "يؤسفني أنك جبان". وفي أمريكا يرتب أوضاعه من خلال إرتباطه بزوجته الأمريكية كريس العاملة السابقة في أحد البارات، حيث يحصل من خلالها على الجنسية الأمريكية، وينتهي زواجه منها في النهاية بالعجز الجنسي، وبذكريات حادة تجاه حبيبته المصرية زينب رضوان، تؤدي به في النهاية إلى الإنتحار.

لم يفرض الراوي الرئيسي، وهو هنا الروائي، نفسه على تصرفات وممارسات شخوصه، رغم بعض المساحات السياسية المباشرة والفجة في الرواية، كما أسلفنا الذكر، وخصوصاً تلك التي تتعلق بالممارسات السياسية في مصر الآن، وتلك التي تتعلق برئيس الجمهورية، والتي بدت غاية في المباشرة السياسية والتعليقات الصحفية العادية. ولا تقدم لنا الرواية هؤلاء الشخوص بتقييم أخلاقي مُسبق، لكنها تقدمهم في أطرهم الاجتماعية التي أنتجتهم، بما يترك للقارئ مسافة واضحة للحكم عليهم، وفقاًً لرغباته وحجم التعاطف أو الرفض الذي يكنه لهم.

ورغم هذه الحرية التي منحها الراوي لشخوصه، فإن الرواية، وربما على خلاف "عمارة يعقوبيان" لم تحقق ذلك التوازن المطلوب من خلال عرض الجوانب المختلفة الخاصة بالشخصيات من ناحية، وعرض العديد من الشخصيات الإيجابية والسلبية من ناحية أخرى. فقد ركبت الرواية، بشكلٍ مبالغ فيه، موجة التعرض بالمسلمين وبسلوكياتهم، حيث بدا المسلم متناقضاً في سلوكياته وحياته، حتى وهو يحصل على الدكتوراة من أرقى الجامعات الأمريكية. لقد بدا العربي المسلم المهاجر جباناً ومضطرباً وخائفاً، وكأن الرواية تُكمل من طرف خفي صفاقة الغرب المهاجم للعرب وللمسلمين وتتوحد معها.

تقع الرواية، بوعى أو بغير وعى، بقصد أو بغير قصد، في حالة تنميط للعربي المسلم المهاجر، وهى صورة رغم ما فيها من جوانب كثيرة صحيحة، إلا أنها تُغمط الطرف عن الكثير أيضاً من جوانب الصورة الأخرى، حيث العديد من المهاجرين الناجحين، الأكثر تماسكاً وصلابة في حياتهم بين ربوع بلاد المهجر. لقد امتثلت الرواية لتصور مسبق صاغت من خلاله شخوصها، وألزمتهم بهذا التصور النمطي المتوافق مع الرؤى الغربية ضد العرب والمسلمين. وحتى الثوري الملتزم في الرواية بدا ضعيفاً ومنكسراً أمام فتاته اليهودية التي بدت أكثر قوة وصلابة وإلتزاماً. هل أرادت الرواية مخاطبة الداخل العربي أم أنها أرادت مخاطبة الخارج الغربي؟ أغلب الظن أنها كُتبت من أجل القارئ العربي بينما كانت من طرف آخر مقيدة بالتوحد مع الآخر الغربي، ومُستدمجة لمقولاته ولتصوراته. لذلك بحثت الرواية عن هؤلاء الشخوص الذين يثيرون شهية دور النشر الغربية، ويدفعونها دفعاً للمزيد من تشويه صورة العرب والمسلمين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى