الأربعاء ١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥
بقلم يوسف علاري

هامشيون خارج المعبر

في غزة تُكتب اليوم أبشع فصول الإبادة الجماعية. أطفال يُنتشلون أشلاء من تحت أنقاض بيوتهم، نساء تُدفن أحياء تحت الركام، وجرحى يبحثون عن مستشفى فلا يجدون. مشاهد الدم والدمار تبثها الشاشات ليلًا ونهارًا، صارت وصمة عار على جبين الإنسانية جمعاء، لكن الألم يبلغ مرارته حين يبدو صدى هذه المأساة في محيطها العربي مجرد بيانات استنكار وإدانة عابرة. أمة يُفترض أنها الأقرب إلى فلسطين وقضيتها، لكنها اختارت أن تقف خارج المعبر، تتفرج على المجازر بلا حيلة، ولا فعل، ولا إرادة، وكأن ما يحدث مجرد عرض مسرحي.

مسار طويل من التخاذل

فهل يُسمى هذا العجز بعد اليوم تقصيرًا؟ أم أنه تجاوز كل حد ليصبح تواطؤًا صامتًا يقترب من شبح الخيانة؟ امتدادًا لمسار طويل من التخاذل بدأ منذ نكبة 1948. من تلك اللحظة وحتى اليوم تتوالى الهزائم، تتكرر القمم، تُصاغ البيانات، لكن الاحتلال يترسخ ويتمدد، ويزداد بطشه كلما طال الصمت من حوله. هكذا اكتفت الأمة العربية بكتابة الهوامش، فيما النص الرئيسي يُسطر في غزة بدماء الأبرياء.

كثيرٌ من أنظمة الحكم العربية، في سياستها الرسمية، تبدو وكأنها لا تتحرك بفاعلية إلا حين تلمس النيران مصالحها المباشرة أو استقرار عروشها. حين لوّح ترامب بتهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، اشتعلت العواصم غضبًا لأن "الأمن القومي" مهدَّد. لكن حين يُباد الفلسطينيون يوميًا تحت القصف والحصار، لا يُسمع سوى بيانات استنكار، أو صمت يقطعه هدير الطائرات الإسرائيلية. فأي أمن هذا الذي لا يحمي أبناء الأمة؟

سبع وخمسون دولة.. لا تُحرّك سوى الألسنة

جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، اجتمعتا مرارًا، أصدرتا بيانات، أنشأتا لجانًا، لكن لم ينجُ طفل واحد في غزة بفضل تلك الاجتماعات. سبع وخمسون دولة عربية وإسلامية تستغيث بالمجتمع الدولي، وكأنها أيتام على موائد السياسة، بينما هي تملك من السلاح والمال ما يكفي لفرض كلمتها. مشهد لا يثير سوى السخرية المرة: جيوش جرارة تُستعرض في العواصم، لكنها تتحول إلى جيوش من ورق أمام إسرائيل. هذه المفارقة تختصر المشهد كله.

لا ينبغي إنكار تعقيد المشهد؛ فموازين القوى الدولية المشوهة، والتبعيات الاقتصادية، وحسابات الحرب الباردة الجديدة في المنطقة، جميعها عوامل تُضعف الإرادة وتُعقّد الحل. لكنها، في الوقت ذاته، لا تبرر قبول الأمر الواقع أو التخلي عن السعي لمساحة من المبادرة والفعل.

إسرائيل تتجاوز الحدود.. والضعف العربي مستمر

لم تقف إسرائيل عند حدود غزة. لقد تمادت، فقصفت بيروت ودمشق وصنعاء مرارًا، ثم وصلت بصواريخها إلى قلب الدوحة بتعدٍ صارخ على دولة ذات سيادة، لاستهداف قادة المقاومة الفلسطينية وهم على طاولة التفاوض. لم تعد إسرائيل ترى في أي دولة عربية سوى ساحة مفتوحة للقتل والتدمير والتهديد متى شاءت. ولم يرتقِ أحد إلى مستوى ما يحدث، لا حكامًا ولا شعوبًا.

منذ نشأتها، ظلت الأنظمة العربية ترفع شعارات جوفاء مثل "الأمة الإسلامية" و"الوحدة العربية"، لكن الحقيقة أن أوطانها ممزقة، تحرس حدود سايكس بيكو، وتدير صراعات مذهبية وعائلية، بينما العدو يسرح ويمرح في أرجاء الوطن العربي الكبير. نحن اليوم "أمم مهترئة"، مفلسة من الكرامة رغم ثرواتها الهائلة، شعوب مفككة، تسيطر عليها أنظمة تخضع لأجندات خارجية.

الغرب يتضامن والجيران يتفرجون!

حتى "أسطول الحرية" الذي حاول كسر حصار غزة لم يخرج من أي عاصمة عربية، بل من برشلونة. الحقيقة تقول إن جيش فلسطين الحقيقي اليوم ليس العرب، بل الأحرار في العالم. خرجت مظاهرات مليونية تهتف لفلسطين وغزة في شوارع لندن، مدريد، كوبنهاغن، واشنطن، شيكاغو، باريس، زيورخ، البرتغال، إيطاليا، بلجيكا، ماليزيا، أستراليا، اليابان، الصين، كيب تاون، فنزويلا، المكسيك، البرازيل، بينما ظلت التظاهرات العربية في كثير من العواصم محاصرة بالخوف أو مُقيَّدة ببيانات وزارات الداخلية التي تحذر من أي تجمع. وهكذا، في لحظة الحقيقة، يبدو أن صوت الضمير العالمي يعلو أحيانًا على صوت الجيرة، الذين اختاروا الجلوس على الهامش، يتفرجون على التاريخ وهو يُكتب بغيرهم.

خاتمة: خارج دائرة الفعل والتاريخ

الأحرار من شعوب الأرض، مختلفو اللون واللسان، وقفوا في الصف الأول دفاعًا عن المستضعفين في غزة، بينما أصحاب الكوفية والعقال صاروا مقعدين، وهامشيين خارج المعبر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى