الخميس ٢٨ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم سليمان عبدالعظيم

الاتساق الفكري

تخيل عزيزي القارئ لو أنك سمعت أم كلثوم التي غنت الأطلال تغني شخبط شخابيط، أو أنك سمعت عبد الوهاب الذي غنى الجندول يغني العنب العنب، أو أنك سمعت فيروز التي غنت أعطني الناي تغني بوس الواوا. ماذا سوف يكون رد فعلك تجاه هذا التناقض؟ إن أول سؤال يتبادر إلى ذهنك في هذه الحالة العبثية هو ما الذي يفعله هؤلاء المطربون بأنفسهم؟ وهل نسوا تاريخهم أو تناسوه؟ وما هي الأسباب التي دفعتهم للقيام بمثل هذا الفعل؟ من حسن الحظ أن أيا من هؤلاء المطربين العظام لم يفعل ذلك ولم يغني تلك الأغنيات التي تخرجه من زمرة العظام إلى زمرة الصغار أو أشباه الصغار.

بالطبع هناك حالة من التطور ترتبط بهؤلاء المطربين الكبار، فما غنته أم كلثوم في بداية حياتها يختلف عما غنته في نهايتها. فالتطور شيء طبيعي سواء أكان في الغناء أو الموسيقى أو الأفكار. لكن هناك فرق بين التطور الطبيعي الذي تمليه تحولات الواقع المختلفة واختلاف الأزمنة وبين تلك القفزات الحادة التي تنتقل بين فكرة وأخرى بدون أي متطلب اجتماعي أو أي أسانيد منطقية. الحالة الأولى ترتبط بالتطور الطبيعي بينما الحالة الثانية ترتبط بالعبث الفكري وانعدام الاتساق. وحولنا العديد من الأمثلة لهذه النوعية من المفكرين الذين ينتقلون من تيار فكري لآخر ومن توجه أيديولوجي لآخر بدون أن تطرف لهم عين أو يشعروا بأي خجل تجاه القراء أو المتابعين لهم.

ويُروى أن أحد الصحفيين كان يكتب مقالا يمتدح فيه العهد الاشتراكي وأثناء الكتابة إذا بأحد زملائه يخبره بنهاية هذا العهد والتحول نحو العهد الرأسمالي، فما كان منه إلا أن شطب كلمة اشتراكي واستبدلها بكلمة رأسمالي، وكأن شيئا لم يحدث. هكذا بجرة قلم انتقل الرجل من المعسكر الاشتراكي إلى المعسكر الرأسمالي بدون أي معاناة فكرية أو التزام أيديولوجي. وتبرز مخاطر هذا التحول العبثي السريع عند صنع السياسات العامة التي يستهدي بها صانع القرار، وبشكل خاص بالنظر للجوانب الحيوية في المجتمع التي ترتبط بشؤون وأحوال العباد مثل التعليم أو الصحة أو الاقتصاد أو الإسكان. إن هذا التناقض في صوغ السياسات العامة يؤدي إلى كوارث جمة وهائلة يدفع ثمنها في النهاية المواطن العادي الذي لا حول له ولا قوة في صياغة تلك الأفكار أو قبولها أو رفضها.

ومن أسف أن البعض يعلن عن آرائه بشكل يختلف عما يعلنه وهو ضمن أروقة السلطة وضمن صناعة السياسات العامة. على سبيل المثال كيف يمكن أن يعلن البعض عن أهمية الرقابة الحكومية على التعليم ومراقبة الجامعات الخاصة الجديدة وتحري طبيعة المقررات التي تطرحها والاستراتيجيات التي ترتأيها، ثم يعلن بعد ذلك مؤازرته التامة والمطلقة للقطاع الخاص في التعليم. كيف يمكن الجمع بين هذين الرأيين هكذا ببساطة ودفعة واحدة، كأن هناك شخصين داخل الشخص الواحد، أحدهما يقول ما يحلو له في تعارض وانفصال تام عما يقوله الشخص الآخر. كيف يمكن الدعوة لوضع التعليم تحت أعين ورقابة الحكومة والدعوة لدور فاعل ومركزي للقطاع الخاص في العملية التعليمية؟ وكيف يمكن الدعوة لدور فاعل ومهيمن للقطاع الحكومي والدعوة لفتح الأبواب للاستثمارات الأجنبية ودور فاعل للقطاع الخاص؟ لسنا في معرض تقييم السياسات الاشتراكية أو الرأسمالية، ولسنا في معرض تقييم الجوانب الإيجابية والسلبية للقطاع الحكومي والقطاع الخاص على السواء. لكن المهم هنا هو تلك التضاربات الحادة في الآراء التي يصوغها بعض المفكرين والتي تصل حد التعارض التام وتفقد صانع القرار أية مصداقية فيما حوله من مفكرين ومثقفين ومستشارين.

يرتبط عدم الاتساق الفكري بدرجة كبيرة من السيولة تتيح للفرد أن يقول الشيء وعكسه في الوقت نفسه بهدوء وببرود تام. وفي ظل لعبة التوازنات الهائلة والمفرطة التي يمارسها الكثير من المثقفين تحقيقا لمصالحهم الخاصة الضيقة تبلغ حالة عدم الاتساق الفكري مستويات هائلة إلى المدى الذي نتوقع فيه من هذه النوعية من المفكرين تغيير آرائهم عند أول مناسبة اجتماعية أو سياسية تستدعي هذا التغيير.

تقود حالة عدم الاتساق الفكري المثقف إلى أن يصبح سلطة قمعية أمام قرائه. فما يقوله في أية مناسبة يصبح مقرونا بالقبول والموافقة وعدم الاعتراض. وتخلق هذه النوعية من المثقفين قدرا كبيرا من الاهتراء في السياق الفكري والثقافي من حيث أن سلوكهم ينقل القراء من الاندهاش والرفض إلى القبول والانصياع. وخطورة هذا الأمر أنه يصبح نموذجا يحتذيه الكثيرون وبشكل خاص الأجيال الجديدة التي لا تجد أمامها من مثال تحتذيه سوى عدم الاتساق الفكري الذي يحقق الكثير من المكاسب المختلفة، وإن ارتبط في بعض الأحيان ببعض المتاعب السياسية. فعدم الاتساق الفكري لا يرتبط فقط بكل ما يرضي السلطة، ففي بعض الأحيان ترتبط تلك الحالة ببعض ما يغضب السلطة ويثير حفيظتها، وهو ما يؤدي فيما بعد إلى العودة مرة أخرى إلى ما يرتبط برضاء السلطة وعطاياها. لا يعني ذلك أن حالة عدم الاتساق الفكري ترتبط فقط بالسلطة وبهيمنتها، وبرضاها أو غضبها، لكنها حالة أعمق من ذلك بكثير، ترتبط بالمفكر أو المثقف ذاته، الذي لا يعي تماما مسئولياته وأدواره الاجتماعية المنوطة به في المجتمع، والذي يبادر بابتذال نفسه أكثر مما تطلب منه السلطة، وفي أحيان كثيرة أكثر بكثير مما يتوقعه السياق الاجتماعي المحيط به.
لا تنجح حالة عدم الاتساق الفكري بدون تواطؤ اجتماعي محيط، فالقبول الاجتماعي أو إدعاء القبول الاجتماعي بتلك الأفكار المتناقضة التي يقول بها البعض، يمكن ترجمتها بشيوع بنية تواطؤ عامة تشمل الجميع، وتشجعهم على ابتذال أفكارهم وآرائهم وتغييرها بسهولة. تلعب بنية التواطؤ هذه دورا محوريا في الكثير من المجتمعات العربية على كافة الصعد المختلفة، وهو الأمر الذي يستدعي توصيف وفهم وتحليل عناصر هذه البنية والتأثيرات المختلفة المصاحبة لها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى