

أيام حيّ الزهور
1- الصباح في الحي
كانت الشمس تتسلّل بخجل بين نوافذ البيوت القديمة، معلنةً بداية يوم جديد في حيّ الزهور. كل خطوة على الحجر المتآكل في الزقاق كانت تجعل المرء يشعر بتاريخ حيّ كامل يتنفّس من حوله.
استيقظ عليّ في بيته الكائن وسط الزقاق قبل طلوع الفجر. نظر إلى والدته النائمة على سريرها البسيط، خفّف من صوت حركته حتى لا يوقظها. في يده كوب ماء دافئ قدّمه لها بابتسامة خافتة:
ــ صباح الخير يا أمي… هل تشعرين بتحسّن اليوم؟
فتحت عينيها بصعوبة وابتسمت له بحنان:
ــ أنت دائمًا هنا يا ولدي… الله يرعاك.
خرج بعد ذلك إلى المطبخ الصغير، فأعدّ وجبة بسيطة لأخته سماح، التي كانت تغطي شعرها الطويل بوشاح صغير. كانت تحب الجلوس قرب النافذة، تراقب الشارع بفضول، وتدوّن في دفترها كل ما تراه من أصدقاء أو مشاهد، كأنها تحاول فهم العالم من زاوية الحيّ الضيقة.
ارتدى عليّ ملابسه البسيطة وأغلق باب البيت خلفه، وتنشّق الهواء البارد قليلًا قبل أن يسير نحو محلّ الخياطة الذي تملكه أم هاني، امرأة في منتصف الخمسينيات، حنونة، لا تفارق الابتسامة وجهها. كانت تتعامل مع كل زبون وكأنه جزء من عائلتها:
ــ صباح الخير يا علي… هل أنت جاهز اليوم لمزيد من الخياطة؟
ابتسم لها قائلًا:
ــ نعم، أم هاني… هناك بعض الستائر الجديدة التي تحتاج إلى لمسة خاصة منك.
2- شخصيات الحي
في الزقاق المقابل، جلست ليلى عند نافذتها، فرشاتها ولوحاتها مبعثرة على الطاولة الصغيرة، ترسم مشاهد الحي: الأطفال يلعبون، الباعة ينادون على الخضار الطازج، والقطط تتجوّل بين الزوايا. كانت تراقب عليّ أحيانًا وتبتسم له بصمت، كأنها تعرف ما لا يراه أحد عن حياته.
على الرصيف، كان سعيد يصرخ أحيانًا على الأطفال الذين يلهون بالكرة بالقرب من سيارات الناس:
ــ انتبهوا يا أولاد! لا تدمّروا الزقاق!
لكن بعد لحظات، كان يبتسم لهم ويمنحهم بعض النقود لشراء الحلوى من بائع قريب. كان سعيد معروفًا بصراحته وجرأته، لكنه أيضًا رقيق القلب مع من يحتاج، ويحب أن يرى الحيّ نظيفًا ومرتبًا.
وفي زاوية أخرى جلس أبو خالد، الرجل العجوز، على كرسي خشبي بجانب بيته، يحمل دائمًا مجلة قديمة أو دفتر ملاحظات. كان الأطفال يحبونه، يأتون إليه لسماع قصصه عن أيام الحي القديمة، عن الحب والخيانة، وعن أبطال لم يسمع بهم أحد، لكنه يعرفهم من ذاكرته الطويلة.
3- صراع صغير وأزمة المياه
حين بلغت الشمس منتصف السماء، حدث ما لم يكن متوقّعًا: انفجر أنبوب مياه قديم في الزقاق. تدفّق الماء بغزارة، أغرق جزءًا من الشارع، وأدّى إلى فوضى عارمة.
الصراخ عمّ الحي، والنساء حاولن حماية بيوتهن، والأطفال بكوا، بينما الباعة سعوا لإنقاذ بضائعهم. ركض عليّ إلى البيت للاطمئنان على والدته وأخته، بينما حملت ليلى لوحاتها إلى الأعلى لتجنّب البلل.
كان سعيد أوّل من هبّ للمساعدة، ينظّم الناس، يوقف تدفّق المياه بالدلاء الكبيرة، ويمنع بعض الأطفال من الركض بلا هدف. أما أبو خالد فجلس على الرصيف يروي للأطفال قصة قصيرة:
ــ عندما كنت شابًا، انفجر هذا الأنبوب أكثر من مرة… والحيّ بقي صامدًا. أنتم أيضًا تستطيعون أن تفعلوا شيئًا يلائم أعماركم وتنحلو بالصبر والصمود.
كشف هذا الحدث عن طبيعة الحي: التضامن، الصبر، والشجاعة الخفيّة لدى سكانه. بدأت علاقات جديدة تتشكّل، وتعرّف عليّ على جيران لم يلتقِ بهم من قبل.
4- تطور مشاعر عليّ وليلى
مع مرور الأيام، لاحظ عليّ شعورًا جديدًا تجاه ليلى. لم تعد مجرّد فتاة تجلس على نافذتها، بل أصبحت جزءًا من حياته اليومية. بدأ يشاركها تفاصيل عمله في محل الخياطة، مشاكل والدته، وخططه المستقبلية الصغيرة.
أما ليلى فكانت تراقبه بصمت، وترسل له رسائل غير مباشرة عبر لوحاتها. كل لوحة كانت تحمل رسالة تشجيع، أو كلمة حب خفيّة، أو صورة لمشهد في الحيّ تذكّره بأن الحياة، رغم صعوبتها، جميلة.
5- تهديد حيّ الزهور
وصل خبر مثير للذعر: شركة بناء ضخمة تخطط لتطوير المنطقة، وتهديم بيوتهم القديمة ومحلاتهم الصغيرة. شعر الجميع بالقلق، وانقسم الحيّ بين من يريد المقاومة ومن يخاف من التغيير.
اجتمع السكان أمام محل عليّ وأم هاني، وتحدث سعيد بحماس:
ــ لن نسمح لهم بهدم بيوتنا! هذا الحيّ تاريخنا، ذكرياتنا، وحياتنا!
وأضاف أبو خالد بحكمة:
ــ تذكّروا يا أولاد… سننجح إذا وقفنا معًا. كل بيت، كل زقاق، كل ذكرى.
بدأت ليلى ترسم لافتات للحركة الاحتجاجية، تحمل وجوه الحيّ وألوانه، وتحفّز الجميع على المواصلة. أما عليّ فشعر بأن أحلامه الصغيرة باتت جزءًا من حلم جماعي أكبر: الحفاظ على حيّ الزهور.
6- ذروة الأحداث
مع اقتراب موعد الاجتماع مع مسؤولي الشركة، تصاعد التوتر. حاول بعض الشباب التصدّي لمعدات البناء، ووقعت أحيانًا مشادات مع رجال الشركة. في تلك اللحظات، اكتشف عليّ قوة التضامن بين الناس، وأن حبه للحيّ وسكانه يزداد قوة مع كل لحظة صراع.
كانت ليلى دائمًا بجانبه، تدعمه بابتسامتها ولوحاتها، بينما يقود سعيد الشباب، ويواصل أبو خالد رواية القصص ليخفّف عنهم الخوف. شعر الجميع أن الحيّ ليس مجرد بيوت، بل قلب ينبض بالذكريات والصمود.
7- النهاية
بعد أسابيع من التفاوض والاحتجاجات السلمية، نجح السكان في الحفاظ على معظم البيوت، وتم تأجيل مشروع البناء. عاد الهدوء تدريجيًا إلى الزقاق، فعاد الأطفال للعب، والباعة إلى أصواتهم المألوفة، والحيّ لينبض بالحياة من جديد.
جلس عليّ على الرصيف بجوار ليلى، ينظران إلى السماء وهي تميل إلى الغروب:
ــ أشعر أن كل شيء تغيّر… ليس فقط الحيّ، بل أنا أيضًا.
ابتسمت ليلى وقالت:
ــ نعم، كل شيء يتغيّر… لكن هناك أشياء تظل صامدة، مثل روح حيّ الزهور.
كان أبو خالد يروي قصة جديدة للأطفال، وسعيد ينظّمهم للعب، فيما جلست سماح تدوّن في دفترها كل ما حدث. شعر عليّ بأن حياته وأحلامه صارت أكبر وأعمق، وأنه لم يعد وحيدًا؛ فالحيّ كله أصبح جزءًا من حلمه، وحلمه صار جزءًا من الحيّ.