رمزية الحضور والغياب في رثاء السياب لدى محمد الماغوط
نص القصيدة
في رثاء السياب
محمد الماغوط
يا زميل الحرمان والتسكع
حزني طويلٌ كشجر الحور
لأنني لست ممدَّداً إلى جوارك
ولكنني قد أحلُّ ضيفًا عليك
في أية لحظة
موشحًا بكفني الأبيض كالنساء المغربيات
لا تضعْ سراجًا على قبرك
سأهتدي إليه
كما يهتدي السكير إلى زجاجته
والرضيع إلى ثديه
فعندما ترفع قبضتك في الليل
وتقرع هذا الباب أو ذاك
وأنت تحمل دفترًا عتيقًا
نُزع غلافه كجناح الطائر
وأنت تسترجع في ذاكرتك المتعبة
هذه الجملة أو تلك
لتقصها على أحبابك حول المصطلى
ثم يسمع صوتًا يصرخ من أعماق الليل:
لا أحد في البيت
لا أحد في الطريق
لا أحد في العالم
ثم تلوي عنقك وتمضي
بين وُحول آسنة
وأبواب أغلقت بقوة
حتى تساقط الكلس عن جدرانها
وأنت واثق أن المستقبل
يغص بآلاف الليالي الموحشة
والأصوات التي تصرخ:
لا أحد في البيت
لا أحد في الطريق
لا أحد في العالم
هل تضع ملاءة سوداء
على شارات المرور وتناديها يا أمي؟
هل ترسم على علب التبغ الفارغة
أشجارًا وأنهارًا وأطفالًا سعداء
وتناديها يا وطني؟
ولكن أي وطن هذا الذي
يجرفه الكناسون مع القمامات في آخر الليل؟
تشبَّث بموتك أيها المغفَّل
دافع عنه بالحجارة والأسنان والمخالب
فما الذي تريد أن تراه؟
كتبك تُباع على الأرصفة
وعكازك أصبح بيد الوطن
أيها التعس في حياته وفي موته
قبرك البطيء كالسلحفاة
لن يبلغ الجنة أبدًا
قصيدة محمد الماغوط في رثاء الشاعر بدر شاكر السياب لا تكتفي بالوقوف عند مستوى الحداد التقليدي، بل تنفتح منذ البداية على أفق وجودي وفلسفي يعكس الحرمان والخذلان والمصير المحتوم للشاعر. يتحرك النص على مستويات متعددة من الرمزية والصور الحسية، ويعكس فضاءات زمنية متداخلة بين الحاضر والماضي والمستقبل، حيث يصبح الموت والمكان المشترك بين الماغوط والسياب تجربة تتخطى حدود الفردية.
يبدأ الماغوط بنداء مباشر: “يا زميل الحرمان والتسكع”، وهو نداء يخلق صلة حميمية وفورية مع المرثى، ويُقرب الموت من الحياة اليومية، مؤسسًا لعلاقة أفقية بين الشاعرين تقوم على المشاركة في الخسارة نفسها. يصوَّر الحزن مجازيًا من خلال الطبيعة: “حزني طويل كشجر الحور”، حيث يشير طول الحزن إلى امتداده الزمني وعمقه النفسي، وشجر الحور رمز للصبر والثبات رغم الظروف الصعبة، ما يعكس جذور الألم وتجذر التجربة الإنسانية.
يتطور الرثاء ليأخذ شكل زيارة روحية حسّية: “ولكنني قد أحلُّ ضيفًا عليك في أية لحظة موشحًا بكفني الأبيض كالنساء المغربيات”، حيث يصبح الكفن الأبيض رمز الموت، والموشَّح بالنساء المغربيات يضفي بعدًا بصريًا وغرائبيًا على الحضور، مزيجًا بين الغياب والاحتفال بالوجود اللحظي. يتواصل الرثاء عبر صور يومية مألوفة لكنها مفعمة بالمعنى: “لا تضع سراجًا على قبرك، سأهتدي إليه كما يهتدي السكير إلى زجاجته والرضيع إلى ثديه”، حيث تتحرك الرموز من الحزن إلى البديهيات الإنسانية، ويصبح القبر نقطة ارتكاز في عالم مبهم، والهداية إليه تبرز العلاقة بين الغريزة والوجود، بين الحياة والموت.
يشكّل الليل والأبواب المغلقة فضاءً للموت والغياب: “فعندما ترفع قبضتك في الليل وتقرع هذا الباب أو ذاك وأنت تحمل دفترًا عتيقًا نُزع غلافه كجناح الطائر”، فالليل يرمز إلى الفراغ والغربة، والطرقات والأبواب المغلقة تجسّد العزلة، بينما دفتر السياب العتيق يربط الماضي بالحاضر، والغلاف المنزوع كجناح الطائر يرمز إلى هشاشة الإبداع وعرضة المصير للانكسار، في تلازم بين الزمان والمكان والذاكرة. تتكثف الفكرة الوجودية من خلال تكرار الصرخة: “لا أحد في البيت، لا أحد في الطريق، لا أحد في العالم”، حيث تتحول إلى إيقاع داخلي يربط بين الرثاء والحرمان، ويحوّل الصرخة الفردية إلى صرخة شاملة عن العزلة والخذلان.
لا يقدم الماغوط السياب كرمز أسطوري، بل يضعه في قلب مأساة ملموسة، ويطالبه بالتشبث بالموت: “تشبَّث بموتك أيها المغفَّل، دافع عنه بالحجارة والأسنان والمخالب”، ليصبح الموت امتيازًا أخيرًا لم يُسلب بعد، ورمزًا لمقاومة وجودية. تجمع الخاتمة الرموز اليومية والمصيرية معًا: كتب السياب تُباع على الأرصفة، وعكازه صار بيد الوطن، وقبره “البطيء كالسلحفاة” لن يبلغ الجنة أبدًا، لتتحول الرمزية إلى هجوم لاذع على الإهمال والخسارة، ويظل النص مفتوحًا على مرارة لا شفاء منها، كقبر بطيء يحفظ المعنى ويستمر في الحضور.
تبرز حركة الكتابة على الورق عند الماغوط كعنصر تكويني للنص، فالقصيدة تتحرك بصريًا بين خطوط طويلة ومتقطعة، متنقلة بين الحدة والانحدار، بين السخرية والمأساة، في إحساس بالحركة المستمرة على الصفحة، وكأن الورقة نفسها تتنفس الألم. تعكس الكتابة الفضاءات الزمنية المتداخلة بين الحاضر والماضي والمستقبل، وتضع القارئ في حالة مشاركة حسية وعاطفية مع التجربة الشعرية. بهذا الشكل، يقدم الماغوط رثاءً متفردًا، يخرج عن المألوف: رثاء بلا دموع، بلا تعزية، وبلا وعود أخروية. السياب ليس مجرد شاعر راحل، بل شاهد على تجربة مشتركة في الحرمان والخذلان، والماغوط يقف إلى جواره، زميلًا في الرثاء، مؤكدًا أن القبر، مهما كان بطيئًا، هو الحقيقة الوحيدة التي لم تُغلق أبوابها بعد.
