ثلاثة على طريقٍ واحد
كان السهل يمتدّ بلا ملامح، فكرةً مفتوحة أكثر منه مكانًا. أرضٌ رمادية تلامس الأفق من دون وعد، والسماء فوقها طبقات باهتة كذاكرةٍ أُنهِكت من كثرة الاسترجاع. قرص الضوء معلّق واطئًا، حاضرًا كمراقبٍ قديم لا يتدخّل. في هذا الامتداد كانوا ثلاثة يمشون، لا يسبقهم سوى الصمت.
تقدّمهم سالم، طويل القامة، يحمل في يده قضيبًا معدنيًا رفيعًا، لا ليستند إليه، بل ليقيس به ثباته، كأن الفراغ قد يختلّ إن ترك يده خالية. خلفه نادر، منحني الظهر قليلًا، يحمل أفكاره كما لو كانت أثقل من جسده. أمّا يوسف فكان الأخير، يختبر الأرض بخطواتٍ متردّدة، لا يثق بما لا يجرّبه.
أحسّ سالم أن المكان يربكه، وأن السهل يعرفه أكثر مما يعرف نفسه، فخطر له أن الطريق لا يتناقص بقدر ما يزداد امتلاءً بما نحمله. عندها بدا له أن الامتلاء ليس سوى تراكم الأجوبة المؤجَّلة، والأفكار التي لم نجرؤ يومًا على خيانتها.
أدرك نادر أن المكان لا يسأل، بل يُجبر من يقف داخله على الإجابة، وأن الأرض لم تعد تُقاس بالمسافة، بل بالثقل. أمّا يوسف فكان يوقن، في صمته، أن هذا الثقل هو ما يجعل كل خطوة اختبارًا.
حين بلغوا بقايا جدارٍ متهالك، لا يُعرف إن كان بيتًا أم حدًّا بين زمنين، جلسوا قربه. شعر يوسف أن المشي لم يُفرغه كما كان يتوقّع، بل كشف له مقدار ما لا يعرفه عن نفسه. فهم سالم أن المشي لا يحرّر بقدر ما يفضح، وأن الوصول لم يعد الهدف؛ فالمشكلة الحقيقية أنهم لم يعودوا متأكدين إن كانوا يريدون الوصول أصلًا.
راود نادر إحساسٌ بأن التأجيل ليس سوى هروبٍ مهذّب، وأن الهروب أحيانًا هو الصيغة الوحيدة للبقاء. بدت لسالم فكرةٌ قاسية: البقاء قد لا يكون إلا تكرارًا للنفس في أماكن مختلفة، بينما رأى نادر في الاختلاف الصغير مبرّرًا للاستمرار. أمّا يوسف فكان يبحث عن الصدق بعد أن سئم أفكارًا عظيمة لأنها لم تُجرَّب.
بدا لهم أن الفكرة بلا تجربة خفيفة تطير مع أول ريح، وأن بعض الأفكار يجب أن تطير كي نعرف أنها لم تكن لنا. أحسّ نادر أن المشكلة الأعمق أننا نتمسّك حتى بما لا ينتمي إلينا، خوفًا من الفراغ الذي يخلّفه التخلّي، مع أن الفراغ قد لا يكون عدوًا، بل احتمالًا مُرهقًا يحتاج شجاعةً يومية.
نهض سالم وغرس القضيب المعدني في الأرض، كأنه يحدّد نقطةً غير مرئية. قال في داخله إن المكان لن يذكرهم، لكنهم سيحملونه معهم. لم يكن يعرف إلى أين، سوى إلى سؤالٍ آخر ينتظر. كانوا يدركون أن الوضوح قاسٍ، لا يترك مجالًا للأعذار، ولهذا أحبّوا الغموض؛ لأنه يسمح لهم بالبقاء معلّقين بين ما ظنّوه صوابًا وما يخشون الاعتراف به.
توقّفوا لا لأن الطريق انتهى، بل لأن ما يؤجّلونه بلغ حافّة الكلام.
صار الاستمرار اختيارًا، والمراجعة خطرًا، والصدق عبئًا لا يُخفَّف.
تحرّكوا لأن الوقوف لم يعد ممكنًا،
وفي السهل اتّسع المكان لما لم يُحسَم، ومضى السؤال أمامهم.
