الخميس ٢٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

حيّ 20

حيّ 20، حيٌّ يبدو حيًّا، لكنه ليس سوى عدٍّ طويل يتظاهر بالحياة.

كل صباح يبدأ بالرقم نفسه وينتهي به، كأن الزمن هنا لا يتقدّم، بل يدور حول نقطة صدئة. كان الناس يخرجون من بيوتهم واحدًا واحدًا، لا لأنهم يريدون، بل لأن العدّ لا يكتمل إن غاب أحدهم.

كنتُ أحدهم.

لا أذكر متى صرتُ “أنا”، لكنني أذكر أنني كنتُ يومًا أخفّ، أقلّ امتلاءً بالثقل. الآن أمشي كمن يحصي خطواته خشية أن يضيع، وكأن الأرض نفسها قد تُسقطنا إن لم ننتبه للعدّ.

في حيّ 20، كل شيء يُقاس:

عدد النوافذ المغلقة، عدد الوجوه التي لا تبتسم، عدد السنوات التي مرّت دون أن يحدث ما يستحق التذكّر. يقولون إن الرقم ليس مصادفة، وإن الحيّ سُمّي هكذا لأن عشرين سنة مرّت عليه دون أن يغيّر جلده، أو لأن عشرين حلمًا دُفنت تحته، أو لأنه آخر حيّ قبل أن تبدأ المدينة في نسيان نفسها.

كان البقّال سالم يفتح متجره في التوقيت ذاته كل صباح. لا يبتسم، لا يعبس، فقط يضع الميزان أمامه كمن يضع شاهدًا على الصمت. لم يكن يزن الخبز بقدر ما كان يزن الفراغ بين الأشياء.

سألته مرة:

– لماذا لا تغيّر مكان الدكان؟

فأجاب دون أن ينظر إليّ:

– لأن الأشياء، إن تحرّكت كثيرًا، تنسى لماذا وُجدت.

في الجهة المقابلة، كانت المعلّمة هناء تعبر الشارع حاملة ملفًّا أزرق لا تفتحه أبدًا. يعرف الجميع أنها تدرّس، لكن لا أحد رأى تلميذًا يخرج من صفّها. تقول إن الأطفال كبروا فجأة، وإن الكلمات لم تعد تلحق بهم. حين تمشي، تحسب خطواتها همسًا، كأنها تخشى أن تنسى نفسها في منتصف الطريق.

عند الزاوية، تجلس أمّ سعدي، تحدّق في الفراغ. تقول إن الحي كان يومًا يعجّ بالأصوات، وإن الضحك كان يوقظها قبل الأذان. الآن تعدّ الوجوه بدل الأيام، وكلما بلغ العدّ عشرين، ابتسمت وعادت إلى الصفر.

أما حازم الكهربائي، فكان يصلح الأعطال التي لا تحدث. العمود المائل في منتصف الحي لم ينكسر يومًا، لكنه ظلّ مائلًا كأن المدينة تميل معه. قال مرة:

– لا شيء معطوب هنا… التعب فقط يعرف كيف يتقن التمثيل.

ومنذ ذلك اليوم، لم تُضَأ الأنوار كاملة، ولم تنطفئ تمامًا.

وكان هناك سيف، أصغر من أن يفهم، وأكبر من أن ينجو. يحمل حقيبة أثقل من جسده، مليئة بدفاتر بيضاء. حين سألته لماذا لا يكتب، قال:

– أنتظر أن أعرف ما الذي يستحق أن يُكتب.

كان يعدّ الطيور في السماء، ويتوقف عند العشرين، كأن ما بعدها فراغ لا يُحتمل.

أما أنا، فكنت أراقب.

أعدّ وجوههم، خطواتهم، صمتهم.

كنت أشعر أن الحيّ لا يسكننا، بل نحن من نسكنه كي لا ينهار، كأن وجودنا وظيفة سرّية نؤديها دون أن نفهمها.

في المساء، حين تخفّ الحركة، يبدأ العدّ الحقيقي.

تعدّ النوافذ أنفاسها، ويعدّ الشارع ظلاله، ويعدّ الصمت نفسه حتى يتعب.

لا أحد يتحدث عن العزلة، لأن العزلة هنا ليست غياب الآخرين، بل غياب القدرة على الوصول إليهم.

ذات يوم، توقّف العدّ عند الرقم تسعة عشر.

تأخّر أحدنا.

لم نعرف من، لكن الحيّ ارتجف.

العمود المائل أصدر أنينًا خافتًا، كأن الحديد تذكّر نفسه.

أغلق البقّال دكانه قبل الوقت.

فتحت المعلّمة ملفّها ثم أغلقته بسرعة.

بكت أمّ سعدي دون دموع.

وسقطت أوراق سيف البيضاء كطيور فقدت اتجاهها.

حينها فهمت:

نحن لسنا عشرين شخصًا، بل عشرون انتظارًا.

عشرون سنة تُعاد كل يوم.

عشرون حلمًا مؤجّلًا كي لا ينكسر دفعة واحدة.

قدّمتُ خطوة، لا لأقود، بل لأعترف:

— هذا ليس حيًّا… هذا انتظار طويل.

لم يُجب أحد، لكن شيئًا ما تحرّك.

صار الهواء أثقل، أصدق،

كأن الجدران تُنصت، وكأن الأرض تستعيد ذاكرتها.

ومع مرور الأيام، بدأ حيّ 20 يتحرّك على نحو غير مرئي.

لم تتغيّر الشوارع، ولم تنتقل البيوت، لكن كل شيء صار أكثر حضورًا، كأن الأمكنة تذكّرت أسماءها القديمة.

في مساء واحد، اجتمعنا قرب العمود المائل.

سالم لم يزن الخبز، بل وازن الصمت.

هناء كتبت أسماء الذين ضاعوا هنا، وتركت نهاياتهم مفتوحة.

أمّ سعدي أنصتت، لا لتعدّ، بل لتُبقي الحياة مستيقظة.

حازم مسح العمود وقال بهدوء:

— أنت حيّ… لا تنهار، أنت تتذكّر.

وسيف رسم الطائر الحادي والعشرين، كأن الحيّ يتعلّم الطيران من جديد.

أما أنا، فشعرت أننا لم نعد أفرادًا متجاورين، بل كيانًا واحدًا يتنفّس ببطء، يستيقظ من سبات طويل.

في تلك اللحظة، لم تصفر الريح، بل تنفّست.

اهتزّت الأبواب، مالت النوافذ، وهمست الجدران:

نحن هنا… نحن نحيا، حتى لو لم ترونا.

ثم خفت الضوء، لا ليغيب، بل ليفسح مكانًا لشيء أعمق.

كان الظلام حيًّا، دافئًا، يحتضن الحالمين، والناسين، ومن لم يجدوا طريقهم بعد.

وفي النهاية، بقي حيّ 20 مستيقظًا،

يصغي إلى نفسه،

إلى سكّانه،

إلى كل حلم لم يولد بعد،

ويعدّ خطوته القادمة…

حتى لو لم نكن نحن من يقرّرها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى