الجمعة ٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

التداخل الشعري في البناء القصصي

يُعدّ التداخل الشعري داخل البناء القصصي أحد أبرز التحولات الجمالية التي عرفها السرد العربي المعاصر. فلم يعد الشعر مجرد جنسٍ أدبي قائم بذاته، بل أصبح طاقة لغوية ورؤيوية تتسرّب إلى النسيج القصصي، فتغيّر ملامحه، وتعيد تشكيل إيقاعه، وتفتح أمامه آفاقاً جديدة في التعبير. ولم يعد هذا التداخل حالة طارئة أو حيلة أسلوبية، بل غدا جزءاً من التجربة السردية نفسها، يطبع بنيتها، ويعيد تشكيل علاقتها باللغة والمعنى. وتنبع أهمية هذا التحول من أنه يضع القصة أمام تحدٍّ إبداعي جديد: كيف يمكن للسرد، بوصفه جنساً يقوم على الحكاية والتتابع والحدث، أن ينفتح على الشعر، بوصفه جنساً يتأسس على الإيقاع والتكثيف والانزياح اللغوي؟ وكيف استطاعت هاتان البنيتان المختلفتان أن تتجانسا بحيث يصبح وجود الشعر داخل القصة إضافة جمالية لا إخلالاً بنظام السرد؟

إنّ الشعر حين يدخل القصة لا يدخلها بوصفه ضيفاً غريباً، بل بوصفه طاقة لغوية يتماهى معها السرد قبل أن يستوعبها. وحين يلتقي الشعر بالقصة يتغيّر شكل العالم داخل النص، لأن اللغة نفسها تتغيّر؛ فبدلاً من اللغة المحايدة التي تتجه نحو تقديم الأحداث، يصبح السرد مشحوناً بقدرة إيحائية تتجاوز الوظيفة الإخبارية. وعند هذه النقطة يتحول التداخل الشعري من مجرد زينة لغوية إلى بنية من بنى التشكيل السردي. فالقصة ذات الشعرية لا تُبنى على الأحداث وحدها، بل على طريقة قول هذه الأحداث، وعلى الإيقاع الذي يتخللها، وعلى الحساسية اللغوية التي تبعث المعنى فيها. وفي كثير من الأحيان يكون الشعر هو العنصر الذي يمنح السرد حرارة داخلية تغيّر من طبيعة التلقي.

ولا يعني التداخل الشعري في البناء القصصي كتابة قصة بلغة شاعرية فحسب؛ فهذه اللغة الموحية قد تكون جزءاً من حساسية الكاتب، لكن الشعر يظهر هنا بوصفه حالة مستقلة ذات وظيفة، لا مجرد إضافة أسلوبية. يدخل الشعر القصة عندما يتحول النص إلى حالة من التكثيف الدلالي، وحين تصبح الصورة أهم من الحدث، وتتحول الجملة إلى فضاء للتأمل. في هذه اللحظة، لا يعود السرد مجرد حركة بين بداية ووسط ونهاية، بل يصبح شبكة من الانفعالات والرؤى التي تفتح القصة على مستويات متعدّدة. وهنا يظهر الفرق بين السرد الشاعري بوصفه حلية لغوية، والتداخل الشعري بوصفه بنية واعية: الأول يعتمد تزيين اللغة، أما الثاني فيخلق علاقة جديدة بين اللغة والعالم، علاقة تجعل السرد فعلاً جمالياً قائماً على الإيحاء لا على الوصف المباشر.

ولعل من أهم دوافع ظهور هذا التداخل التحولات التي شهدتها الكتابة المعاصرة، والتي أعادت النظر في مفهوم الأجناس الأدبية. فقد تراجعت الحدود الصلبة بين الشعر والسرد، وبدأت الأجناس تتقاطع، لا من باب التجريب فقط، بل لأن التجارب الإنسانية نفسها لم تعد قابلة للفصل بين ما هو شعوري وما هو حكائي. فالقصة الحديثة غالباً ما تبحث عن شكل يُعبّر عن تعقيد الإنسان المعاصر، وهذا التعقيد لا يُختزل في الحدث، بل يتجلّى أكثر في اللغة التي تُنظّم تجربة الوعي. وهنا يؤدي الشعر وظيفة جوهرية، إذ يمنح السرد القدرة على الإمساك بالحالات الداخلية، بالهواجس، بالانكسارات الدقيقة، وبالطبقات الخفية للوجود. فالشعر، في جوهره، لغة ما قبل الحدث أو ما بعده؛ لغة تلتقط ما لا تستطيع العبارة المباشرة الإمساك به. ولذلك فإن دخوله إلى القصة يُعد محاولة لالتقاط ما يتجاوز البنية السردية التقليدية.

ولا يمكن الحديث عن التداخل الشعري دون الوقوف عند أثره في تشكيل الإيقاع داخل القصة. فالإيقاع عنصر أساسي في الشعر، لكنه حين ينتقل إلى السرد لا ينتقل بوصفه وزناً أو موسيقى ظاهرة، بل بوصفه تناغماً داخلياً في حركة الجمل، وفي تتابع الصور، وفي توتر المشاهد. وبعض القصّاصين يمتلكون قدرة خاصة على خلق إيقاع يجعل القصة أقرب إلى حالة موسيقية، بحيث لا يعود القارئ يتابع الأحداث بقدر ما يتابع النبرة الداخلية للنص. وهذا الإيقاع هو ما يجعل التداخل الشعري حالة جمالية بامتياز، لأنه يمنح السرد حيوية إضافية، ويخلق نبضاً داخلياً يجعل القراءة تجربة حسية لا ذهنية فقط. وهكذا يتحول السرد إلى نوع من الموسيقى الكتابية التي تعتمد في تأثيرها على الإيقاع الداخلي لا على البناء الزمني وحده.

ومن الجوانب الأكثر عمقاً في هذا التداخل أنه يغيّر علاقة السارد بالعالم. فالسارد الذي يكتب بتقنيات شعرية لا يقدّم الأحداث كما يراها فحسب، بل كما يشعر بها، وهذا التحول من الرؤية إلى الإحساس يخلق نوعاً من التوتر الجمالي بين الخارج والداخل. وبدلاً من أن تكون القصة مرآة للواقع، تصبح مرآة للذات وهي تتأمل الواقع. وهنا يمنح الشعر السرد القدرة على تحويل الحدث العادي إلى حالة وجودية، وعلى الانتقال من الموضوعي إلى الذاتي دون أن يفقد النص توازنه. وهذا ما يجعل التداخل الشعري ليس مجرد تقنية، بل تحوّلاً في الرؤية السردية نفسها.

فالرؤية الواقعية التقليدية التي تعتمد على الوصف والتقرير تتراجع لصالح رؤية تتأسس على التجربة الشعورية، حيث تكون التفاصيل الخارجية مجرد مداخل لاكتشاف البعد الإنساني الأعمق.

إن تمازج الشعر بالسرد ينتج جماليات جديدة لأنه يجمع بين قوتين: قوة الحكاية وقوة الصورة. فالحكاية تمنح القارئ مجالاً للمتابعة، بينما تمنحه الصورة مجالاً للتأمل. وعندما يتوازنان داخل النص، تصبح القصة أكثر قدرة على التأثير، لأنها لا تخاطب عقل القارئ فحسب، بل تخاطب حواسه أيضاً. وهنا تظهر القيمة الجمالية الحقيقية للتداخل الشعري، إذ يمنح السرد عمقاً نفسياً وجمالياً يجعله يتجاوز حدوده التقليدية. فالقصة التي تستثمر الشعر لا تفعل ذلك من أجل إرباك الحدود، بل من أجل تطوير قدرة السرد على احتضان ما لا يُقال مباشرة. فالسرد يعتمد على التسلسل، بينما يعتمد الشعر على التكثيف؛ وعندما يلتقيان يولد نص قادر على الجمع بين الاتساع والاختزال، بين الحركة واللحظة، بين التدفق والثبات.

وعلى الرغم من ذلك، فإن التداخل الشعري لا يمثل انتقالاً نهائياً من السرد إلى الشعر، ولا محاولة لإلغاء الحدود بينهما، بل هو حالة وسطى تنشأ من حاجة النص إلى تطوير أدواته. والسؤال هنا: هل يعدّ هذا التداخل انتقالة في تاريخ السرد؟ الجواب أن الأمر يتجاوز مفهوم الانتقالة التاريخية إلى مفهوم التحول الجمالي. فالسرد لم ينتقل كلياً إلى منطقة الشعر، لكنه اتسع ليستوعب الطاقة الشعرية. والشعر، بدوره، لم يفقد استقلاله، لكنه وجد في السرد مجالاً حيوياً لتوسيع أثره. وهذا التفاعل لا يلغي الحدود، بل يعيد صياغتها. ويمكن القول إن التداخل الشعري يمثل انتقالة في حساسية الكتابة لا في بنيتها، انتقالة في الطريقة التي نرى بها النص وفي الكيفية التي يتشكّل بها الوعي داخل الكتابة، لا في قواعد الجنس الأدبي ذاته.

إن دخول الشعر إلى القصة يضيف إليها إمكانية قراءة ثانية. فالقصة الشعرية لا تُقرأ قراءة خطية فحسب، بل تُقرأ أيضاً بوصفها نصاً يشتغل على التلميح أكثر من التصريح. وهذا يجعل من التداخل الشعري شكلاً جديداً من أشكال التلقي. فالقارئ في هذه الحالة لا يبحث عن التسلسل الحكائي فقط، بل يبحث عن شبكة من الإشارات والصور والعلاقات التي تتولد داخل النص. وتصبح عملية التلقي هنا أكثر تعقيداً، لأنها تتطلب حساً شعرياً في القراءة. وهذا بحد ذاته أحد أسباب ظهور هذا التداخل، لأنه يعيد تشكيل دور القارئ ويحوّل تجربته إلى فعل تأويلي لا مجرد استقبال حكائي.

ولا يمكن إغفال دوره في تطوير مفهوم الشخصية داخل القصة. فعندما يتسلل الشعر إلى السرد، تتحول الشخصية من كيان حكائي خارجي إلى حالة لغوية. لم تعد الشخصية تُبنى من خلال الحوار والوصف فقط، بل من خلال النبرة الشعرية التي تحيط بها. وفي بعض القصص تصبح الشخصية أقرب إلى صورة شعرية منها إلى كائن حكائي، وهذا يمنح السرد قدرة على تصوير الحالات الداخلية بطريقة لا يقدر عليها السرد التقليدي. فالشعر يتيح للتجربة الداخلية أن تظهر في شكل مكثّف، وهذا يجعل الشخصية أكثر إنسانية لأنها تُعرض بوصفها وعياً وحساسية لا مجرد مظهر خارجي.

كما أن المنطقة التي يلتقي فيها الشعر بالسرد تمنح القصة قدرة على التعامل مع الزمن بطريقة مغايرة. فالشعر بطبيعته غير ملتزم بالزمن الخطي؛ إنه يعيش في اللحظة أو الومضة، بينما يبني السرد زمنه على الامتداد. وحين يحدث التداخل، يتحول الزمن داخل القصة إلى زمن متقطع، أو متضخم، أو متباطئ، تبعاً للحالة الشعرية. وهذه المعالجة الزمنية تمنح السرد إمكانات جديدة، لأن القصة لم تعد مقيّدة بصيغة زمنية واحدة، بل أصبحت قادرة على تشكيل زمنها الخاص. وهكذا يصبح التداخل الشعري وسيلة لتحرير الزمن السردي من قوالبه الثابتة.

لذا، فإن التداخل الشعري في البناء القصصي ليس مجرد ظاهرة أسلوبية، بل هو نتيجة حاجة فنية وفكرية. إنه إعادة نظر في علاقة اللغة بالعالم، وفي علاقة السرد بالوعي، وفي قدرة القصة على استقبال الأشكال الفنية الأخرى. وحين يدخل الشعر القصة لا يفعل ذلك بوصفه بديلاً للسرد، بل بوصفه شريكاً يعيد توازن النص، ويمنحه طبقة إضافية من الحساسية. إنه لا يسلب السرد قوته، بل يضيف إليها قوة أخرى: قوة الإيحاء، والاختزال، وكشف ما لا يُرى. ولذلك فإن التداخل الشعري يمثل انتقالة داخل الجنس نفسه نحو مستوى أعلى من التعبير، ومحاولة لملامسة ما يتجاوز الحكاية نحو جوهر التجربة الإنسانية، حيث تكون اللغة وسيلة لاكتشاف العالم لا لنقل الأحداث فقط.

2016

مقال من كتابي المخطوط بعنوان: «الأدب من الداخل: تأملات نقدية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى