الجمعة ١٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥
بقلم رانيا مرجية

المرآة الأخيرة

في مدينةٍ مغمورة بالضجيج، كان الناس يركضون كأنهم يهربون من أنفسهم. في وسطها، عاشت امرأة لم يكن لها بيتٌ ثابت ولا اسم معروف. أطلقوا عليها ألقابًا كثيرة: “الغريبة”، “المجنونة”، و”الساحرة”. لكنها لم تجادل يومًا، بل كانت تحمل على ظهرها مرآة مغطاة بقماش أبيض.

لم تكن تبيعها، ولم تسمح لأحد بلمسها. كل ما فعلته هو أن تجلس في الساحات، وحين يقترب منها شخص يائس أو غاضب، ترفع الغطاء ببطء وتضع المرآة أمامه.

ولم يكن أحد يرى صورته كما اعتاد، بل كان يرى ما يخفيه قلبه: جرحه القديم، حلمه المجهض، أو ذنبه الذي لم يغفره بعد.

في البداية، ارتعب الناس. قالوا:

— “إنها ساحرة تكشف الأسرار، لا بد من نفيها!”

لكن الغريبة كانت تبتسم وتهمس:

“أنا لا أكشف شيئًا، المرآة وحدها تنطق. أنتم أنكرتم أنفسكم، وأنا فقط أعيدكم إليها.”

ذات ليلة، اجتمع زعماء المدينة وقرروا كسر المرآة. حين اقتربوا منها، وقفت المرأة وقالت:

— “هذه ليست مرآتي. إنها آخر مرآة خلقها الله للإنسان، إن حطمتوها فلن يبقى لكم سوى الركض وراء صوركم المزيفة.”

رفعوا العصيّ وحطّموا المرآة. لكنها لم تنكسر. بل تفجرت نورًا ملأ الساحة. وحين انقشع الضوء، لم يجدوا المرأة. بقي القماش الأبيض على الأرض، وبقيت المدينة كلها ترى نفسها مكشوفة، بلا أقنعة.

منذ ذلك الحين، صارت تُروى الحكاية عن “الساحرة التي حملت المرآة الأخيرة”، لا كخرافة بل كوصية:

“أن تعرف نفسك، هو أعظم أنواع السحر. وأن ترى الآخر بصدق، هو أقدس المرايا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى