سنةٌ من الغياب
يا مطارَ العيون...
كم من دمعٍ تأخّرَ عن موعدِ الطائرة،
وكم من قُبلةٍ ظلّتْ معلّقةً بينَ صبرٍ ونداء!
أعودُ إليكما،
أحملُ عامًا من الغربةِ في حقيبتي،
وعطرًا من البلادِ التي لا تشبهُ وجهيكما،
وأوراقًا تشهدُ أنَّ القلبَ لم يهاجرْ،
بل كانَ يعبرُ إليكما كلَّ مساءٍ
على جناحِ الشوق.
تمدّانِ ذراعيكما،
فتتّسعُ البلادُ كلّها في حضنٍ واحد،
وتنكمشُ المسافاتُ كأنّها ندمتْ،
تقولانِ شيئًا لا يُسمَع،
لكنّي أفهمُهُ من رعشةِ الدمع،
من دفءِ الكفّ،
ومن نظرةٍ تقولُ:
"ها قد عدتِ أخيرًا."
تضحكانِ...
فيبتسمُ المطارُ كأنّه بيتُنا القديم،
وتلوّحُ الأرصفةُ لفرحٍ تأخّرَ سنةً كاملة.
الناسُ يمرّونَ،
ولا يعلمونَ أنَّ في زاويةٍ صغيرةٍ
وطنًا يعودُ إلى ذاتهِ
في لحظةِ عناقٍ.
حتى أنتَ، أيها القطُّ الأبيض،
يا شاهدَ الغيابِ الصغير،
تنظرُ إليَّ كمن يقرأُ في وجهي
قصّةَ العودةِ من حنينٍ طويل،
وتهمسُ بعينيكَ:
"لقد رجعتِ أخيرًا،
فلا تغادري ثانيةً،
فنحنُ تعبنا من الانتظارِ أيضًا..."
أمسحُ على فرائك،
كأنّي أمسحُ الغيابَ عن الأيام،
كأنّي أعتذرُ عن كلِّ ليلٍ
لم تجدني فيه قربَ وسادتك.
يا لهفةَ اللقاء،
كم خبّأناها في الرسائلِ،
وفي ليلِ الانتظارِ الذي لا ينام.
كم مرّةٍ رسمتُ وجهكما على الزجاجِ المبتلّ،
وصدّقتُ أنَّ البخارَ روحكما تزوراني للحظةٍ
ثم تغيبانِ من جديد.
الآن،
نلتقطُ صورةً،
فتصيرُ الذاكرةُ ملموسةً،
ويصيرُ الفقدُ مجرّدَ ظلٍّ خلفنا.
نضحكُ...
كأنّنا لم نحزنْ يومًا،
كأنّ الغربةَ كانتْ حلماً طويلاً
استيقظنا منه على دفءِ البيت.
في ابتسامتكما يعودُ الوطنُ كلّه،
ويفهمُ الغيابُ
أنّ الحبَّ وحدهُ
هو الطريقُ إلى البيت.
وأقولُ في سري:
يا الله،
ما أضيقَ الغياب،
وما أوسعَ هذا اللقاء،
حين يلتقي وجهانِ من دمعةٍ واحدة،
ويصبحُ المطارُ، ولو لساعةٍ،
أجملَ من كلِّ بلادِ
مرّت سنةٌ على الصورة...
لكنَّها ما زالت تُضيءُ كنافذةٍ صغيرةٍ في قلبي،
كلّما اشتدَّ الغيابُ،
فتُطلّانِ منها — أنتِ وقطّي —
بابتسامتينِ لا تكبرانِ،
ولا تُشبهانِ شيئًا من هذا العالم.
كم أتمنّى لو يعودُ المطارُ كما كان،
والعناقُ كما كان،
وارتجافةُ اللحظةِ تلك التي لم أعرفْ
أنّها ستصيرُ وطنًا مؤقّتًا في الذاكرة.
أحيانًا،
أنظرُ إلى الصورةِ فأقول:
ليتَ الزمنَ يخطئُ مرّةً واحدة،
ويعودُ بي إلى تلك الدقيقة،
حين كانَ الفرحُ بسيطًا،
والبيتُ في ذراعيكما،
والعالمُ كلّهُ
في لقطةٍ لا تتكرّر.
