

شاكر فريد حسن كاتبٌ اختار أن يكون المقال كتابه والناس قُرّاءه

مدخل
عندما يرحل كاتب مثل شاكر فريد حسن، لا نحصي أوراقًا مطبوعة بقدر ما نحصي قلوبًا أحبّت قلمه. لم يترك وراءه عشرات الكتب أو المجلدات، لكنه ترك أثرًا أوسع وأعمق، لأنه اختار منذ البداية أن تكون حياته امتدادًا لمقاله، وأن تكون كلماته خبزًا يوميًا يتشارك فيه مع الناس، لا حروفًا مغلقة بين دفّتي كتاب.
الكاتب الذي عاش اللحظة
كان شاكر يؤمن أن الأدب ليس حكرًا على النخبة ولا يُخزَّن في المكتبات فقط، بل يُعاش في الشارع والمقهى، في الحيّ والبيت، بين الناس الذين يواجهون تفاصيل الحياة اليومية. لذلك ظلّ وفيًا لفكرة المقال، يكتبها صباحًا فتخرج للناس ظهيرة اليوم نفسه، حارّة، طازجة، مثل رغيف لا يحتمل التأجيل.
وحين كان يُسأل: “لماذا لا تصدر كتابًا؟”، كان يجيب ببساطة وعمق: “كتبي الحقيقية هي مقالاتي، وما دام الناس يقرؤونها، فهي حيّة ولا تموت.” كان يرى أن الكتاب يُجمّد النص في زمن واحد، بينما المقال يظلّ يتنفس مع الحدث ويواكب الناس حيث هم.
قلمه وصوته
تميّز شاكر فريد حسن بقدرة نادرة على المزاوجة بين دفء الإنسان وصرامة الموقف. كان صوته منحازًا للضعفاء، للفقراء، للمهمّشين، وللقضية الفلسطينية التي ظلّت شغله الشاغل. كتب مرةً: “أكتب كي أُبقي جذوة الأمل مشتعلة، فاليأس موت بطيء، أما الكلمة فهي حياة أخرى.”
لم يكن يلهث وراء الجوائز ولا يسعى خلف المنابر الرسمية، بل اختار أن يكون ابن الناس، يكتب لهم ومن أجلهم. لذلك جاء أسلوبه مباشرًا، صادقًا، ممتزجًا بوجدانية عالية، ومرتبطًا بهموم اللحظة التي يعيشها القارئ.
أثره الثقافي والاجتماعي
على الرغم من أنه لم يطبع كتابًا باسمه، إلا أن شاكر فريد حسن ترك أثرًا لا يمحى في الصحافة الأدبية والثقافية الفلسطينية. فقد كان حاضرًا في معظم الصحف المحلية والمواقع الإلكترونية، قلمه ثابت، صوته مسموع، واسمه مألوف لدى آلاف القرّاء.
لقد مثّل حالة خاصة في الكتابة الفلسطينية: كاتبٌ غزير الإنتاج، يوميّ الحضور، صادق الانتماء، لم يتعب من تكرار الدفاع عن الهوية والثقافة في وجه التهميش والاغتراب. كتب ذات يوم: “إن لم ندافع بالكلمة عن هويتنا، سنُمحى بالصمت.” وحتى في أشد اللحظات قسوة، كان يحضر بمقال يخفّف، بموقف يساند، وبكلمة تُعيد الأمل.
علاقاته بالجيل الأدبي
لم يكن شاكر فريد حسن كاتبًا منعزلًا في برجه، بل كان حاضرًا بين الأجيال الأدبية والصحفية المحيطة به. جمعته علاقات واسعة مع شعراء وكتّاب ونقّاد، وكان يكتب عن إصداراتهم ويشجّع محاولاتهم الأولى بحبّ نادر.
كتب عن جيل الشباب قائلاً: “إن لم نفتح لهم الأبواب، فسنجد أنفسنا في بيوت مهجورة من القراء.” ولذلك، وجد فيه الكثيرون أبًا أدبيًا ومرشدًا، يتلقّى نصوصهم بصدر رحب، ويمنح من خبرته دون ادّعاء.
كان يحضر الأمسيات والندوات، يجلس بين الشعراء والقرّاء دون مسافة، يصغي بجدية، ويعلّق بمحبة، ويمنح من خبرته بلا مقابل. وفي عيون زملائه، كان رمزًا للكاتب الذي لا يضيّق الأدب في خانة التنافس، بل يوسّعه ليكون مساحة لقاء وتكامل.
إرث بلا غلاف
المفارقة المؤلمة أن غياب الكتاب المطبوع لم يُنقص من إرثه، بل زاده فرادة. فهو ترك وراءه “مكتبة غير مؤرشفة” مبعثرة بين الصحف والمواقع، لكنها محفوظة في وجدان كل من قرأه. والذين أحبّوه يتمنّون اليوم لو جُمعت مقالاته في مجلدات تحفظ صوته للأجيال القادمة، لأنه كان شاهدًا صادقًا على مرحلة كاملة من تاريخ هذا الشعب.
قال في إحدى مقالاته: “لا أبحث عن الخلود، بل عن أن تصل كلمتي إلى قلب واحد في لحظة يحتاجها.” وهذا وحده كافٍ ليدرك المرء أن كتابه الحقيقي هو الناس الذين لمس قلوبهم.
خاتمة
رحل شاكر فريد حسن بلا كتاب مطبوع، لكنه ترك كتابًا أكبر من أي كتاب: كتاب القلوب التي أسرها، والضمائر التي أيقظها، والأيام التي شهدت قلمه واقفًا إلى جانبها. سيبقى صوته حاضرًا، لأن الكاتب الذي يجعل من الناس كتابه ومن اللحظة ورقته، لا يغيب أبدًا.
رحمه الله، وجعل من كلماته أبدًا جسرًا بينه وبين من أحبّوه