الخميس ٢٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم رانيا مرجية

محمد بكري…حين يغادر الضمير جسدًا ويبقى شاهدًا

هناك أشخاص لا يرحلون كما يرحل الآخرون. لا يعبرون الغياب مرورًا عاديًا، ولا يكتفون بترك فراغ. محمد بكري، حين غاب، أحدث شرخًا في المعنى نفسه. كأن اللغة فقدت نبرة كانت تعرف كيف تقول الحقيقة دون تلطيف، وكأن الضمير الجمعي فقد شاهدًا كان يقف في الصف الأول، عاريًا من الخوف، ومثقلاً بالصدق.

لم يكن محمد بكري فنانًا بالمعنى المهني فقط، بل بالمعنى الوجودي العميق. كان الفن عنده موقفًا أخلاقيًا قبل أن يكون أداءً، وكان المسرح محكمة ضمير لا مكان فيها للتزييف. لم يدخل يومًا دورًا ليؤديه، بل ليحاسب نفسه والآخرين معه. كان يعرف أن الامتحان الحقيقي لا يبدأ تحت الضوء، بل بعد انطفائه، في الحياة، حيث لا تصفيق ولا ستارة ولا أعذار.

كان صدقه مؤلمًا لأنه غير قابل للترويض. لم يعرف كيف يخفف الحقيقة لتصبح سهلة الهضم، ولم يحاول يومًا أن يجعل موقفه مقبولًا على حساب جوهره. قال الأشياء كما هي، لا كما يُراد لها أن تكون. لذلك كان حضوره مربكًا، لأن الصدق الكامل لا يترك أحدًا في منطقة الراحة، بل يضع الجميع أمام مرآة لا ترحم.

محمد بكري كان أخًا كبيرًا لا يمنح الطمأنينة الزائفة، بل يضع يده على الجرح كي لا يُنسى. كان يؤمن أن المواساة السهلة نوع من الخيانة، وأن القسوة الصادقة أحيانًا أعمق أشكال المحبة. أحب الناس دون أن يجاملهم، وانحاز للمظلوم دون أن يحسب الثمن، ودفع ثمن ذلك عزلة قاسية، وتشويهًا متعمّدًا، ومحاكمات لم تكن قانونية بقدر ما كانت محاولات لكسر الموقف وإخضاع الضمير.

لم يسعَ إلى بطولة، وكان يدرك أن من يسير في طريق الضمير لا يُكافأ. ومع ذلك، لم ينكسر. أو ربما انكسر كثيرًا، لكنه لم يسمح للانكسار أن يتحول إلى خضوع. ظل واقفًا لأن الوقوف، بالنسبة له، لم يكن خيارًا بل ضرورة وجودية. كان يفضّل الخسارة الخارجية على أن يخسر نفسه.

في صوته كان تاريخ طويل من التعب النبيل، وفي عينيه أسئلة لا تهدأ. لم يكن متفائلًا ساذجًا ولا يائسًا مهزومًا، بل إنسانًا يعرف أن الحقيقة بطيئة، وأن العدالة متعثرة، ومع ذلك تستحق أن نُدافع عنها حتى النهاية. كان يؤمن أن الصمت ليس حيادًا، وأن الفن إن لم يكن منحازًا للإنسان، يتحول إلى زينة بلا روح.

رحيله موجع لأننا لا نفقد شخصًا فقط، بل نفقد مرآة أخلاقية. نفقد من كان يذكّرنا، بمجرد وجوده، أن القيم ليست شعارات، بل أثمانًا تُدفع. نفقد من كان يضعنا أمام السؤال الأصعب: ماذا نفعل حين تصبح الحقيقة مكلفة؟ هل نختار السلامة أم الكرامة؟

لكن محمد بكري لا يغيب. يتحول إلى معيار، إلى صوت داخلي يوقظنا كلما حاولنا التنازل، إلى حضور خفيّ في كل فنان يرفض أن يكون ديكورًا، وفي كل إنسان يختار الموقف رغم الخوف. من عاش وفيًّا لضميره لا يُختزل في جسد، ولا يُغلق عليه قبر.

سلامٌ لك،

يا من اخترت الطريق الأصعب لأنك عرفت أن الطرق السهلة لا تصنع أثرًا.

سلامٌ لروحٍ أتعبتها الحقيقة،

ولقلبٍ اتّسع للألم دون أن يساوم.

نم هادئًا…

فما تركته خلفك ليس ذكرى،

بل مسؤولية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى