

الصديقان
في زاوية مكتبةٍ نسيها الزمن، جلس إبراهيم، الذي كانوا ينادونه "الحصيف"، على كرسيّ تآكل خشبه كأنما ورث عن القرون صدأها. كان يقلب كتاب محاسبةٍ عتيقاً، لا بحثاً عن أرقام، بل عن نبضاتٍ متروكة بين السطور؛ كأن كل خانة فيه تخبّئ أنفاس الفقراء الذين عبروا ذات يومٍ من ممراتٍ مشابهة، حاملين على أكتافهم خبزاً من عرقهم، وأحلاماً لم تُوزن بعد.
ابتسم. ابتسامة لا تُعرف إن كانت استهزاءً بنفسه أم خيانة للعالم. ثم قال، كمن يحدّث الفراغ:
ــ "الحياة بسيطة… ولكن العيون التي تحاصرها تريد أن تكسوها بالالتباس. أما أنا، فأختبئ في التفاؤل كمن يختبئ في بيتٍ لا ينهار. الأمل عندي قرين، لا أتركه، ولا يتركني."
وكان صديقه الآخر، المعلّم الذي صار مديراً، يقف على الطرف المقابل: رجل يزن الخطوة قبل أن يولد ظلّها، يرى النتائج قبل أن يُفتح بابها، ويخاف من احتمالٍ لم يولد بعد. عيناه تقرآن المستقبل كما تُقرأ المخطوطات البالية: بحذرٍ، وبطء، وخوف من أن يتناثر الحبر إذا لُمس.
قال له ذات مساء:
ــ "أنت دائرة غبار… تُرمى في الهواء، لا تصل إلى شيء، ولا شيء يصل إليك."
ابتسم الحصيف وضحك. كان ضحكه مثل ومضةٍ تخترق صمت الجدران، ثم ردّ:
ــ "لكن الغبار، يا صديقي، على الأقل يتحرّك… أما أنت، فترى حتى الوقت ساكناً."
مرّت الأيام كصفحات كتاب بلا فهرس. الحصيف ينصت لعمالٍ يتهامسون بأصواتٍ مكسورة، كأنه يصغي إلى موسيقى مدفونة بين الأرقام. والمعلّم، كلما تقدّم، ازداد وقوفاً على حافةٍ لا تُرى؛ يحصي احتمالات الانزلاق أكثر مما يحصي خطوات العبور. لم يكن يخاف، بل كان يربّي خوفه كمن يربّي ساعةً تدقّ بطيئاً لتذكّره أن الفوضى على الأبواب.
في ساحة المكتب، كان المشهد يتكرّر. دفترٌ صغير بيد إبراهيم، ضحكٌ خفيف، كلماتٌ لا تحتاج إلى حساب. يقابله المعلّم بعينٍ يقظة، يراقب كل جملة كأنها شبكةٌ قد تصطاده أو تسقطه.
قال الحصيف مرة:
ــ "أنت المرتجف الذي لا يخاف. غريبٌ أمرك… تصنع من القلق مأوى، ومن لحظاتك صراعاً مع الهواء نفسه."
ضحك المعلّم أكرم بصوتٍ مكتوم، كمن لا يعرف إن كان يضحك على صديقه أم على نفسه. شعر أن الغبار الذي استهان به بدأ يتسرّب إلى داخله، يهزّ صلابته في بطء.
ثم جاءت السنوات، كما تأتي الرياح التي لا تسأل: تغيّرت الأدوار دون أن يعترفا. صار الحصيف مرجعاً يقصده البسطاء، كأنه صار لسانهم، أو مرآتهم. أما المعلّم، فما زال يضع كل فكرة على ميزانٍ غير مرئي، يبحث عن زمنٍ يضمن له النتيجة، لكنه ظل محتفظاً بصديقٍ يضحك من الفوضى، ويرى في البساطة سرّاً لا يراه سواه.
وفي شتاءٍ بعيد، جلسا معاً على مقعدٍ خشبي في ساحة مدرسة قديمة، تتساقط أوراق الخريف حولهما مثل أحلام صغيرة بلا ترتيب. رفع الحصيف بصره إلى السماء وقال:
ــ "انظر… كل شيء يسقط، لكنه يجد مكانه في النهاية. حتى أنت ستجد مكانك، ربما."
ابتسم المعلّم ببطء، ثم أجاب:
ــ "ربما… لكنني لن أترك حتى الغبار للصدفة."
ضحكا معاً. وكان في الضحك ما يشبه الاعتراف الموارب: أن الحياة ليست اختياراً بين الصمت والكلام، ولا بين التخطيط والتهور. إنها طريق مشتركة بين غبارٍ يتطاير ورجلٍ يقف على حافة الفكرة، كلاهما يمشي مع الزمن بطريقته، وكلاهما يتقاطعان في نقطة واحدة: الصداقة التي لا تُفسَّر.
وهكذا، ظلّا متجاورَين رغم التناقض، كأنهما وجهان لساعةٍ واحدة: أحدهما يشير إلى الفوضى، والآخر إلى الحذر، لكن الزمن لا يكتمل إلا بهما معاً.