

الغربة في صوت فيروز
كان الصبح يتدلّى على شرفات القاهرة،
وكان النيل يلمع مثل مرآةٍ سماوية،
وأنا أجلس في السيارة،
أوراق سفري بين يديّ،
ووجه فيروز يملأ الأفق من المذياع.
"دقّ الهوى عالباب..."
آه يا فيروز، كم من مرّةٍ
صدّقتُ أن الهوى رسولُ فرح،
فإذا به طفلٌ ماكر،
يُخبّئ الدموع خلف ابتسامة،
ويتركني على حافة الوحدة.
كل حجرٍ على ضفاف النيل
كان يستمع معي،
كل شجرة كافور،
كل مركب يعبر ببطءٍ
كأنّه قصيدة طويلة بلا نقطة نهاية.
في تلك اللحظات،
كنتُ أتعلم أن السفر ليس تذكرة،
ولا ختمًا على جواز،
بل هو ذاكرةٌ تخرج من صدري
لتسكن مكانًا آخر،
ذاكرةٌ تُضيء بوجه فيروز،
وتبكي بعيني.
القاهرة كانت تستيقظ مثل امرأةٍ متعبة،
لكنها جميلة،
تضع كحلها على مهل،
وتسلّم صباحها للمارة والباعة وطلاب المدارس.
وأنا كنتُ غريبة فيها،
أحمل حقيبتي، وأحمل قلبي،
وأستمع لكلماتك يا فيروز
كأنها تترجم غربتي للغةٍ أبسط من الدموع.
"قلنا حبايبنا... تاري الهوى كذّاب..."
كم وجع في هذه العبارة،
كأنها ليست أغنية، بل سيرة بشر،
كأنها ليست لحنًا، بل اعتراف.
كنتُ أشعر أنّ النيل نفسه يردّدها،
أن الموج كان يهمس لي:
الهوى مراوغ يا صديقتي،
لكن لا تلعنيه،
فهو وحده من يعلّمنا كيف تنبت الأجنحة،
وكيف نحتمل الغياب.
هناك، في ذلك الصبح،
عرفت أن فيروز ليست مجرد صوت،
بل وطنٌ متنقّل،
أوسع من جغرافيا،
وأقرب من قلب.
هي قادرة أن تضعني بين ذراعيها،
حتى لو كنتُ وحدي،
حتى لو كنتُ غريبة،
حتى لو كنتُ أنتظر سفري على حافة النيل.