موجٌ يخطف الأصوات
منذ اللحظة الأولى لتلك الليلة البحرية الثقيلة بدا البحرُ كأنه ينهض أمام الرجال، كائنًا يستيقظ من نومٍ محشوٍّ بالغضب. كان ينفض عن جسده ظلامًا كثيفًا، ويجرّ وراءه نفسًا كالحًا، كأنه قرّر أن يستعيد كلّ ما ظنّ البشر أنهم امتلكوه منه خطأ. أمّا السفينة الصغيرة فكانت تتلوّى تحت أقدامهم؛ ترتفع متحدّية وتهبط مستسلمة، مثل حشرةٍ عالقة في أسنان ريحٍ لا ترحم.
احتشدوا على السطح حول قلقٍ واحد، قلقٍ كان أثقل في صدورهم من أي موجةٍ تضرب الخشب. لم يجرؤ أحدٌ على نطق السؤال، لكن نظراتهم كانت تقول الشيء نفسه: هل سيصلون؟
كان الليل أشدَّ شراسةً من البحر، حتى إن خيوط الضوء المتقطّعة فوق وجوههم بدت كعلاماتٍ تضعها السماء عليهم لتقول إن الخوف ليس عارًا. قبض أحدهم على حبلٍ حتى ابيضّت مفاصله من التشنّج، بينما كانت همهماته تتلاشى تحت المطر، يحاول أن يقنع نفسه بأن الريح لا تستطيع ابتلاع من يتشبّث بالحياة… لكن روحه كانت أوهَنَ مما أظهر.
وفي ناحية أخرى كان رجلٌ يصرخ في الريح كمن يصرخ في مرآته، غير أنّ صوته كان يضيع قبل أن يبلغ الهواء، كأنّ العاصفة تمتصّ كلماته لتعيدها إليه خوفًا قديمًا لم يبرأ منه. وبجانبه جلس شابٌّ قرب السارية، يراقب الموج كما يراقب قارئٌ كتابَ قدره؛ لا خائفًا تمامًا ولا مطمئنًا تمامًا، وكأن السؤال الذي يخفيه هو ذاته السؤال الذي يهزّ الجميع: هل ستكتب هذه الليلة أسماءهم؟
كانت الريح تحمل أكثر من الماء والبرد؛ كانت تحمل أصواتًا… أصوات بشرٍ لا وجود لهم على السفينة. بدا الأمر كما لو أنّ مخاوف الناس الراقدة في مدنٍ بعيدة صعدت إلى السماء ثم نزلت عليهم، لتغدو غيمةً من الهمس والذكريات تخنق صدورهم.
وفي مقدّمة السفينة دوّى صوت العجوز، يصرخ باعترافٍ لم يكن موجّهًا لأحد منهم: «سامحوني… سامحوني…» كان يخاطب طيفًا تركه خلفه منذ أربعين عامًا؛ طيفًا لم يغرق في الزمن.
وبينما كان العجوز يكرر صرخته، اقترب منه رجلان، أحدهما قال بصوتٍ مرتجف وهو يشدّ على كتفه:
«عمَّن تطلب السماح يا عمّي؟»
ردّ العجوز بصوت مبحوح: «من نفسي القديمة… من خطأٍ بقي يتنفّس في داخلي.»
فقال الآخر، شابٌ لم يجرب الفقد إلا قليلًا: «كلّنا نحمل شيئًا لا يموت… لكن البحر لا يريد اعترافاتنا، بل يريد أن يسمع صدقها فقط.»
نظر العجوز إليهما كأنه يسمع لأول مرة كلامًا لا تصنعه الريح، فهدأ صوته قليلًا.
كان بعض الرجال قد فقدوا عائلاتهم قبل الرحلة، وكان الحزن يتسلّل من ملوحة الدمع إلى ملوحة البحر، يشبه سؤالًا طويلًا لا يريد الرحيل: لماذا غادروا؟ ولماذا يعودون الآن؟ أكان البحر ملجأً أم هروبًا؟
وعند الدفّة وقف الربّان—الرجل الذي اعتادوه صلبًا كخشب السفينة—يرتجف للمرة الأولى، كأنما يسأل نفسه: «هل اخترتُ هذا الطريق؟ أم أنّ البحر جرّني إليه؟»
اقترب منه أحد البحّارة وقال له بنبرة ثابتة رغم خوفها:
«إن لم نختر الطريق يا ربان، فدعنا نختار البقاء عليه.»
كان ذلك الحوار، رغم قصره، كأنه يفتح نافذة في جدار الليل.
وفجأة… حدث التحوّل.
لم تهدأ الأمواج، لكن صراخها انخفض، كأن البحر قرّر أن يُصغي بعد عنادٍ طويل. خفّ الضجيج، وسرت في الجو سكينةٌ خفيفة، كأن العالم تنفّس نفسًا واحدًا عميقًا.
وحين التقت عيون الرجال أدركوا أنهم لم يفقدوا الشجاعة، بل نسوا مكانها فقط. رفعوا الأشرعة، أصلحوا ما تمزّق، شدّوا الحبال بقوّةٍ جديدة، والسفينة—وكأنها تتذكّر أن الخشب لا يطفو صدفةً—بدأت تستعيد توازنها.
وعندما شقّ الضوء الأول الأفق ظلّ البحر على حاله: واسعًا، متقلّبًا، لا يعطي نفسه لأحد.
لكنّ الرجال… كانوا هم من تغيّروا.
أحدهم خرج بجرحٍ صار علامة،
وآخر خرج بخوفٍ صار درسًا،
وثالث خرج بذاكرةٍ ستظلّ الريح تذكّره بها كلما مرّت قرب أذنه.
وحين انحنت الشمس على الخشب المبلّل بدا كل واحد منهم كأنه يتحسّس قلبه، يبحث عن ذلك الجزء الذي أعادت العاصفة ترتيبَه.
ومع أن السفينة هدأت، بقي في الهواء صدى خافتٌ لهيجانٍ لم يغادر تمامًا—هيجانٌ يشبه الحياة نفسها: لا يهبط ليُمطر الماء فقط… بل ليكشف الحقيقة أيضًا.
