السبت ٢٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

الذي خرج… ليس أنا

عاد حمدان إلى الزقاق في ساعةٍ وكأنها خارج الزمن، حين لا الليل ليلٌ تمامًا ولا الفجرُ فجرًا واضحًا. كانت الأرض لامعةً كأن المطر مرّ منذ قليل، لكن السماء جافة، صافية كجفنٍ لا يريد أن يغمض.

وقف عند المدخل الضيّق، يتأمّل الواجهة التي تغيّر لونها في كل رمشة. مرةً يراها من حجارةٍ بيضاء، ومرةً من طينٍ أسود، وأحيانًا من مادةٍ لا يعرفها تشبه انعكاس الحلم على سطح الذاكرة.

الزقاق لم يكن طويلاً، لكنه امتدّ كلما تقدّم خطوة. كانت المصابيح المائلة تضيء وتخفت بإيقاعٍ يشبه تنفّس شخصٍ يختبئ في الظلام.

سمع خلفه وقع أقدامٍ ناعمة. التفت، فلم يرَ أحدًا، فقط الصدى القصير يركض على الحائط ويختفي حين يلتفت إليه.

على الجدار كتابة باهتة لم تكن موجودة في المرة الأولى:

"كلّ من يعود، يفقد صوته."

ابتسم بلا سبب، كأنه تذكّر نكتة قالها أحدهم قبل قرنٍ مضى.

لمس الباب الحديدي، فشعر بحرارته كما لو أنه ينبض.

حين فتحه، سمع صوتًا طفوليًا يقول بوضوحٍ غير بشريّ:

"لا تنادِ نفسك كثيرًا، قد يجيب آخر."

الداخل لم يكن بيتًا، بل فراغًا محشوًا بأنفاسٍ قديمة. الجدران تتنفّس، والأرض تصدر صوتًا خافتًا يشبه النبض.

في الزاوية مرآة، لا تُرى إلا إذا أغلق عينيه. وحين فتحهما، رأى نفسه يجلس على كرسيّ خشبيّ في نهاية الممرّ، يكتب شيئًا على ورقةٍ بيضاء.

اقترب ببطء. الكرسيّ كان خاليًا، لكن الورقة بقيت هناك. عليها كلمة واحدة: "انتظر."

سأل نفسه: من ينتظر من؟

لكن السؤال خرج من فمه بصوتٍ ليس صوته، وارتدّ إليه كصدى لآخرين.

في الأعلى سلّمٌ من ضوءٍ بارد، يصعد إلى غرفةٍ بلا سقف. صعد درجاته ببطء، وكل درجةٍ كانت تُصدر نغمةً غير مكتملة، كأنها آلة موسيقية تئنّ تحت ذاكرةٍ منسية.

في منتصف الطريق، سمع صوتًا آخر يقرأ بصوتٍ مكسور:

"من يكتب الآن؟ اليد أم الفكرة؟"

في الغرفة جلس رجلٌ يشبهه، لكن عينيه أكثر عمقًا، وكأنه يرى من داخل الأشياء.

قال الرجل دون أن يرفع رأسه:

– ما الذي جاء بك؟

– كنتُ أبحث عني.

– وهل تظنّ أنك خرجتَ يومًا من هنا؟

اقترب حمدان. كانت أمام الرجل مرآة صغيرة، يعكس سطحها ما لا يُرى: غيومٌ سوداء تتحرّك داخل الزجاج، ووجوهٌ تتناوب على الظهور والاختفاء.

قال الرجل:

– كلّما فتحت بابًا، أُغلق آخر فيك. لم تلاحظ بعد؟

مدّ حمدان يده إلى المرآة، فانبثق من الزجاج دخانٌ أبيض التفّ حوله، يهمس بأصواتٍ لا تُفهم إلا بين النعاس واليقظة.

رأى في الدخان وجه طفلٍ يحمل علبة موسيقى، وامرأةً بعينين خاليتين من الانعكاس، ورجلاً بلا ظلّ يمشي خلفه.

أراد أن يتكلم، لكن فمه اختفى.

ضحك الرجل الآخر وقال:

– بدأ التحوّل. لن تطول المسافة بينكما.

حين أدار وجهه، وجد الغرفة قد تغيّرت. لا سقف، لا جدران، فقط ممرّ طويل من مرايا متقابلة، في كل واحدة نسخة له تختلف قليلاً: واحدة تبتسم، وأخرى تبكي، وثالثة ترفع سكينًا كأنها تنتظر الإشارة.

في أقصى الممرّ جلس الطفل نفسه، يلوّح بعلبة الموسيقى التي تدور وحدها، تعزف نغمة ناقصة، لا تُكمل نفسها أبدًا.

اقترب حمدان، والنسخ التي في المرايا بدأت تتبع حركته، تتأخر عنه بخطوة.

قال الطفل بنبرةٍ تشبه الريح حين تتكلم من فمٍ مغلق:

– اختر من أنت، فالآخرون سئموا الانتظار.

في تلك اللحظة، انكسرت كلّ المرايا دفعةً واحدة، وسقط الضوء كأمطارٍ من زجاج.

غُمر المكان بوميضٍ أبيض، ثم بسكونٍ ثقيل.

حين فتح عينيه، كان واقفًا في الزقاق ذاته، لكن كلّ شيء مختلف: الجدران ملساء، لا كتابة عليها، الباب مغلق، والهواء خالٍ من الصوت.

بحث في جيبه فوجد الورقة القديمة، لكن الكلمة تغيّرت: "عُد."

رفع رأسه فرأى نفسه يقف عند الطرف الآخر من الزقاق، ينظر إليه بالعين ذاتها.

لم يعرف أيّهما الحقيقي، وأيّهما مَن خرج من المرآة.

حين خطا خطوةً إلى الأمام، خطا الآخر خطوةً إلى الخلف، وفي المنتصف بدأت الأرض تتحفر ببطء، تخرج منها نغمة الموسيقى لم تكتمل، تدور وتدور حتى ابتلعها الصمت.

بعدها لم يُرَ حمدان مرة أخرى، لكن أحدهم أقسم أنه في الليالي الماطرة يسمع من عمق الزقاق لحنًا لا يكتمل، وصوتًا يهمس من وراء الحديد:

"أنا لم أعد… أنا انعكاس من لم يعد."

(*) قصة قصيرة تمزج الواقع بالخيال... أحداثها تدور في زقاق ممتد بلا نهاية... تحتوي على مرايا تعكس نسخًا متعددة للشخصية... اللغة تصويرية، مليئة بالرموز الغريبة... ويمكن وصفها بأنها قصة رمزية وفانتازية قصيرة...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى