الخميس ١١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

ما يشبه أن يكون حبًّا

بدأ يحدّق في العالم كأنّ عينيه مرآتان متقابلتان، تعكسان وجهًا واحدًا لا يعرف إن كان ينتمي إلى الماضي أم إلى تلك اللحظة التي تتقدّم على أطراف خطواتها. الضوء الذي يسقط على كتفها يشبه ضوءًا عرفه قبل سنين، وارتجاف شفتها حين تهمّ بالكلام يعيد إليه رعشة اسمٍ كان ينطقه في أماكنٍ انطفأت منذ زمن. لم يعرف كيف بدأ هذا التشابه، ولا لماذا كان يوقظه كجرسٍ يعرف موعده دون سبب واضح.

كانت هي ـــ تلك التي تعبر أمامه كطيفٍ مكتمل الجسد ـــ تحمل ملامح الحبيبة الأولى؛ النسخة نفسها، النسق نفسه، ابتسامة تتعثّر بطريقة يعرفها، وصمتٌ زجاجيّ يلمع على وجنتيها كما لو أنّه صمتُ الأخرى، صمتُ الغياب الذي طال سنتين ثم عاد يطرق عليه من نافذة مجهولة.

لكنّه، رغم كل ذلك، كان يخشى الاسم. يخشاه كما يخشى عاشقٌ قديمٌ أن يخطئ في النداء، فيعود الماضي كلّه كخرابٍ لا يمكن كتم صوته. كانت خطواتها تقترب، فيبتعد؛ تبتعد، فيقترب… لعبة لم يعرف أحدٌ منهما من بدأها، ولا من يوقظ الآخر من نومٍ لم ينطفئ أصلًا.

لم يقل لها "أحبك" يومًا، لأنه كان يخشى أن تُحرّك الكلمة البابَ الذي تركه نصف مفتوح قبل سنتين. ومع ذلك، في كل مرة يحدّثها، كان يخاطبها بصوتٍ هادئ يشبه مناداة الحبيبة الأولى؛ نبرةٌ تعود من أماكنٍ قديمة، تتهادى في الهواء كغبارٍ يعرف الطريق إلى الضوء. أما هي، فلا تصدر عنها كلمة واحدة تشير إلى الحبّ، لكن نظرتها، تلك النظرة التي تسقط من أطراف رموشها مثل اعتراف لا يريد أن يكتمل، كانت تقول ما لا يمكن للكلمات أن تحتمله.

يراها أحيانًا تقترب بخطواتٍ لا يسمع لها صوتًا، وكأنّها توشك أن تضع قلبها مكان قلبه. وأحيانًا أخرى، تنسحب ببطء، كأنها تخشى أن ينكشف الشبه بينهما، ذلك الشبه الذي كان يطاردهما كظلٍّ لا يريد مئذنة يختبئ فيها. هو أيضًا كان يتقدّم نحوها على نحوٍ مربك، ثم يبتعد فجأة، كأنّ جسده لا يعرف هل ينتمي إلى الآن أم إلى السنين التي انقطعت فيها الأولى وغابت في الطرق المجهولة.

المدن تمرّ حولهما، كأنها زمنٌ يتباعد. الوجوه تتغيّر، الأزمنة تتفتّت، والشوارع تتقدّم إلى الأمام، بينما هما عالقان في لحظة لا تتحرك. هو يراها فلا يميّز: هل هي الأولى وقد عادت جسدًا جديدًا؟ أم الثانية التي وُلِدت في صورة لا تخصّها؟ وهي، في المقابل، كانت تنظر إليه بنوعٍ من الانتظار، انتظارٍ لا يدري أحد ما إذا كان دعوة للعبور أم اعتذارًا غير مكتمل.

كان الاثنان يدوران في مدارٍ واحد، لا يلامسان بعضهما، كأنّ المسافة بينهما خيطٌ رفيع من وهمٍ كثيف.

ذات مساء، حين عبرت بالقرب منه، سمع صمتها. نعم، سمعه. كان الصمتُ يقول شيئًا لا يمكن الإمساك به: شيئًا يشبه الحبّ، أو يشبه الخوف من الحبّ. فاقترب منها خطوة كافية لتوقظه كل الوجوه القديمة، خطوة يسمع فيها نفسه يقول في داخله:

"لو أنكِ الحبيبة الأولى، فلماذا لا تعترفين؟ ولو أنكِ لستِ هي، فلماذا يشبه وجهك هذا الوجه إلى حدّ يجعلني أرتجف؟"

لكنها ـــ كما في كل المرات ـــ نظرت إليه ثم مضت. نظرة واحدة فقط، كان فيها وعدٌ صغير، ووداعٌ صغير، وشيء لا يُعرَف إن كان بداية أم نهاية.

عاد يبتعد كما يفعل دائمًا، يغرق أكثر في ابتعاده، في المكان الذي يعرف اسمه ونسيانه معًا، في اليأس الذي تعلّم أن يربّي صبره كما يربّي عاشقٌ وردةً لا تنمو. ومع ذلك، كانت هي، طوال ابتعاده، تقترب. تظهر له في الأزقّة التي لا يمر بها إلا نادرًا، عند زوايا لم يمشِ إليها منذ سنين، كأنّها تتبعه دون أن تتبعه، أو تعرف موعده دون أن تعرفه.

أخذته الحيرة والدوران، لكنه كان يشعر بأنّ النهاية، إن وُجدت، ليست نهاية تُكتب. ربما هي مجرّد استمرار لشيء لا يعرف أحدٌ كيف بدأ. وربما، في مكانٍ ما، كانت الحبيبة الأولى تمشي بينهما، تضحك من لعبة المرايا التي لا تعرف من أيّ جانب تنكسر.

وهو… كان يواصل النظر إلى الثانية، تلك التي تشبه الأولى، دون أن يعرف هل يحبها حقًا، أم يحب فقط الوجه الذي كان يفتقده، يبحث عنه ويخاف أن يجده.

ظلّ لا يعرف كيف تنتهي الأمور. أو ربما، كما يهمس الليل له في كل مرة، أنّ بعض القصص لا تنتهي… لأنها لم تبدأ أصلًا، بل حدثت فقط في المسافة التي يتقلّب فيها القلب بين ما يشبه الحبّ وما يختبئ خلفه من صدى ذكرى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى