السبت ٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

دوائر الغياب

كان من الصعب للوهلة الأولى أن يُعرَف متى بدأ ذلك الشاب بالظهور. ربّما خرج من الأزقّة الخلفيّة، أو من بين العمارات التي تتهدّم بصمتٍ متراكم، أو من فراغٍ آخر يشبه الفراغ الذي تركه الغائبون. كان يعبر الشارع الصغير بخطواتٍ لا تُصدر صوتًا، يحمل طبشورةً بيضاء في قبضته، ويقف أمام الجدار المائل خلف فرن عبّاس الخبّاز، حيث تتقشّر طبقات الطلاء مثل جلودٍ قديمة. هناك، يرسم دائرةً تامّة، دقيقة كعينٍ أغمضت نفسها عن العالم... ثم يمضي.

في البدء، لم يلتفت إليه أحد. فالناس كانوا منشغلين بمطاردة أشيائهم اليومية: طوابير الخبز، صفوف الماء، نشرات الوقود، والأخبار التي تتكرّر كالأدعية. وحدهم الأطفال انتبهوا إلى أنّ الدائرة التي يرسمها تكبر كلَّ صباح، كأنّ الجدار نفسه يتنفّسها.

قال أحدهم: "إنها بابٌ سحريّ."
وقال آخر: "بل هي مرآة، من ينظر فيها يرى ما غاب عنه."
أما سوسن الصغيرة، ابنة بائع الخضار، فكانت تضع إصبعها داخل الدائرة وتهمس: "اليوم سيعود..."
لم يُعرف من المقصود بـ"هو"، لكن الكلمة كانت كافية لتُخرس الشارع بأكمله.

مرّت الأيام، وتحوّل الجدار إلى مرآةٍ كبيرة لتأويلات الناس. بعضهم رأى في الدوائر رموزًا لأرواحٍ عالقة، وآخرون قالوا إنها خرائطٌ لأيامٍ مضت. أمّا الشيخ درويش فقال: "هي محاولته لرسم الغياب. كل دائرة تُغلق على فقدٍ لم يكتمل."
لكن ما أثار الرعب أنّ كلّ دائرةٍ جديدة كانت تُرافقها حادثة: اختفاء، موت، أو رحيل.

سجّل الأطفال ذلك كما لو كانوا يكتبون تقويمًا غريبًا:

دائرةٌ واحدة: اختفى القطّ الرمادي.
الثانية: لم يعد المصلّي العجوز إلى المسجد.
الثالثة: أُغلِق بيت نرجس المجنونة فجأة، وقيل إنها غادرت دون وداع.

شيئًا فشيئًا، صار الناس يعتقدون أن الشاب يرسم "نهاياتهم"، وأن كل دائرة تُفتح هي وعدٌ بالغياب. حاول بعضهم مسحها بالماء، لكنها كانت تعود مع الصباح، أكثر وضوحًا، كأن الجدار يرفض النسيان.
وفي الليل، كان يُسمع صريرٌ خفيف، يشبه كتابة الطباشير في الظلام. قال الحارس الليلي وهو يرتجف: "إنه الجدار يكتب نفسه." ضحكوا منه أولًا... ثم لم يعودوا يضحكون.

وذات صباح، لم يظهر الشاب.
كان الغياب هذه المرة هو الدائرة الأكبر.
الجدار بدا أوسع، وكأن شيئًا فُقد منه فجأة.
الأطفال انتظروا طويلًا، ثم حاولوا تقليده، لكن كل دائرةٍ رسموها كانت تتشقّق قبل أن تكتمل. عندها أدركوا أنّ ما يرسمه الشاب لم يكن شكلاً... بل لحظةً لا يمكن تكرارها.

النساء بدأن يتناقلن الروايات: "كان يرسم لأخيه الغريق طريق العودة."
"بل كان يعدّ أرواح الحيّ واحدًا واحدًا."
"لا، هو عالمٌ فقد عقله فصار يكتب الزمن بالطبشور."
لكن أحدًا لم يُجزم بشيء. فكلّ تأويلٍ بدا ممكنًا، وكلّ دائرة كانت قابلة لأن تكون موتًا أو ميلادًا، ذاكرةً أو بوابةً أو ندمًا.

وفي تلك الليلة، نزل المطر.
لم يكن مطرًا عاديًّا، بل دفئًا يتساقط من السماء، كما لو أن السحاب بكى بعد طول احتباس.
هرب الناس إلى بيوتهم، غير أن الأطفال خرجوا يضحكون تحت المطر، والماء يغمر أقدامهم، والجدار أمامهم يلمع كأنه يستعد لقول شيءٍ لم يُقل.

وفجأة، بدأت الدوائر تذوب، لا إلى طين، بل إلى ضوءٍ أبيضٍ ناعمٍ كأن الجدار صار يبتسم.
صرخت سوسن: "انظروا! الباب!"
وفعلًا، فُتح الجدار ببطء، لا كحجرٍ يُشقّ، بل كستارةٍ تُزاح عن مشهدٍ منسيّ.

ومن هناك خرج هو... الشاب نفسه، مبتلًّا، ملامحه غائمة، يحمل في يده طبشورةً صارت لامعةً كقطعةِ قمر. قال بصوتٍ لا يسمعه إلا الأطفال: "لقد اكتملت الدائرة."

ثم مشى نحو نهاية الشارع، نحو ما بعد الضوء، وذابت خطواته في الغياب كما يذوب الحلم عند اليقظة.
خلفه ظلّ الجدار مفتوحًا على فراغٍ يلمع، كأنّه ينادي أحدًا لم يأتِ بعد.

وفي الصباح، لم يبقَ من الجدار شيء.
فقط مساحةٌ خالية، تحيط بها رائحةُ طبشورٍ مبتلٍّ، وعلى الأرض ظلُّ دائرةٍ واحدةٍ تتحرّك مع الشمس.
قال بعضهم إنها ظلّ الباب الذي لم يُغلق بعد.
وقال آخرون: "بل هي الساعة التي ما زالت تدور."
أما الأطفال، فكل مساءٍ يجتمعون هناك، يرسمون دوائر صغيرة بطباشيرٍ مكسورة، ويهمسون: "ربّما سيعود اليوم."

لم يُعرَف إن كانت تلك الدوائر تستدعي أحدًا حقًّا، أم أنها مجرّد محاولةٍ لئلا يُمحى ما فُقِد.
لكن الحيّ تغيّر بعدها: صار أكثر صمتًا، أكثر حذرًا، كأن الجدار الذي اختفى ما زال يكتب في الهواء ما لم يُكتب بعد — كأن كل دائرةٍ تُرسم هي تذكيرٌ بأن الغياب أيضًا له شكل... وأن من يجرؤ على رسمه، يوقظ النور من قلب الظلّ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى