الثلاثاء ١١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

عيون ومدن

مدخل

كلُّ مدينةٍ أثرٌ يتذكّر مَن مرّ بها، وكلُّ هواءٍ يحاول أن يستعيد شكله الأوّل. نعبر المدن كما نعبر أحلامنا المؤجَّلة، فنكتشف أن الطرق لا تقود إلى أماكن، بل إلى طبقاتٍ من الوعي. المدينة تكتبنا وتمحونا، ثم تُعيد خلقنا في لغةٍ أخرى.

القصة

لم يكن الصباح في تلك المدينة يشبه الصباحات الأخرى؛ الضوء بدا متعبًا، كأنّه خرج لتوّه من معركةٍ طويلة مع الغبار، وصوت البحر عند الكورنيش يتنفّس ببطء، كما لو كان يحاول استعادة اسمه.

في كراج السيارات الممتدّ قرب المول، كانت الأرواح تصحو قبل أصحابها. الهواء مفعم برائحة البنزين، والزجاج يعكس وجوهًا تجهل تمامًا لماذا وصلت إلى هنا.

وقف الشاعر قرب الجدار، يمسح الأتربة المتراكمة عن دفترٍ مهترئ كتب على غلافه: «ما لا يُقال». كان يحاول أن يكتب جملةً واحدة فقط، لكن الكلمات تتراجع كلّما اقترب القلم من الورقة، كأنّ المدينة نفسها ترفض أن تُروى.

الروائية، بجانبه، تراقب الشارع من خلف نظارتها الداكنة. لم تكن تبحث عن قصة، بل عن ظلّ القصة التي ضاعت قبل أن تولد. تدوّن أسماء السيارات الداخلة والخارجة، وتقول في سرّها: «حتى هذه الآلات تملك مصيرًا أوضح من الإنسان».

المقاول وصل متأخّرًا، يرتدي بدلةً أنيقة تشبه واجهات البنايات التي يشيدها. يتحدث في الهاتف بصوتٍ مرتفع، كأنّ الأرقام وحدها قادرة على منحه اليقين.

الجندي جلس بعيدًا، يحمل حقيبةً صغيرة، عيناه تتبعان حركة الناس لا ليحرسهم، بل ليفهمهم. كلّ شيءٍ في المدينة يذكّره بالمعسكر: النظام الظاهر، والفوضى الخفية، والطاعة التي تخفي الخوف، والسلام الذي يشبه الهزيمة.

عند المدخل، كانت الموظفة المصرفية تعدّ النقود في حقيبةٍ صغيرة. تحبّ النظام أكثر ممّا تحبّ نفسها، وتقول دائمًا: «الأرقام لا تخون». لكنها لم تكن تدري أن الأرقام، مثل البشر، تتكاثر، أو هي في ازدياد.

أما الخادمة فكانت تكنس الأرض بإيقاعٍ يشبه صوت قلبها. وجهها خالٍ من التعابير، تغنّي بلغةٍ لا يفهمها أحد، كأنّها تحادث المدينة عن سرّها العظيم المدفون تحت الإسفلت.

في زاويةٍ أخرى، ظهر "الحرّ" — رجلٌ لا يُعرف إن كان يعمل في الكراج أم جاء مصادفة. ينتقل من سيارةٍ إلى أخرى، يقدّم المساعدة، ثم يختفي. عيناه تحملان معرفةً لا تشبه أحدًا؛ كلّ من يراه يشعر أنه رآه من قبل، في حلمٍ أو في حياةٍ منسيّة.

ثمّ وصل رجل الأعمال، وجهه لامع كواجهة المول، يصافح الجميع دون أن ينظر في عيونهم، ويقول بثقةٍ باردة: «الحياة صفقة مفتوحة، المهم أن تعرف متى تبيع الحلم».

كانت المدينة تدور حولهم كدوّامة. في كلّ ركنٍ إعلانٌ جديد، وفي كلّ إعلانٍ وعدٌ لا يتحقق. الناس يمشون بسرعةٍ لا يعرفون سببها، والوقت يركض خلفهم ككلبٍ ضالّ يبحث عن اسمه القديم.

في المساء، اجتمعوا في مقهى يطلّ على الكورنيش. البحر بدا ساكنًا، لكنهم أحسّوا أنه يتأمّلهم جميعًا بحدّة.

قال الشاعر: «أحيانًا أشعر أن المدينة تكتبني».

فابتسمت الروائية وأجابت: «وأحيانًا أشعر أننا مجرّد سطور في دفترٍ لا نعرف مَن يملكه».

قال المقاول وهو يقلب فنجان القهوة: «ما يهمّ هو أن تبقى الأرض تحتك ثابتة».

ضحك الحرّ بخفوتٍ وقال: «الأرض دائمًا تتحرّك، نحن فقط لا نملك حسّ الاهتزاز».

الجندي كان صامتًا، يتأمل انعكاس وجهه في الزجاج، ويظنّ أن المدينة تشبه ثكنةً كبيرة، لكن لا أحد يعرف من القائد هنا.

الخادمة مرّت بجانبهم تحمل صينيةً مليئة بالأكواب، عيناها تلتقطان كلّ شيء، لكنها لا تتكلّم، كأنها الوحيدة التي تعرف أن الكلام يوقظ العواصف.

مع حلول الليل، بدت الأضواء كأنها تُطفأ واحدةً تلو الأخرى، والمول الضخم صار كجسدٍ نائمٍ يتنفس بصعوبة. المدينة تغفو، لكن ظلالها تبقى ساهرة.

في غرفةٍ صغيرةٍ أعلى الكراج، جلس الحرّ وحده، أشعل سيجارة وبدأ يكتب على ورقٍ أصفر: «كلّ شيءٍ يتحرّك نحو نهايته، إلا الغبار، فهو البداية والنهاية معًا».

كان يكتب كمن يعرف أكثر مما ينبغي، وصوته الداخلي يهمس: «كلّ هؤلاء الغرباء سيجتمعون مجددًا في مدينةٍ أخرى، حيث يختبرون المعنى ذاته بأشكالٍ مختلفة».

في الصباح التالي، غادر الشاعر المدينة الأولى، وقال وهو يضع حقيبته في السيارة: «سأذهب لأبحث عن جملةٍ تبرّر الوجود».

الروائية تبعته بعده بيومين، تحمل دفترها وملابس قليلة، وتكتب على الغلاف الخلفي: «الرحيل أيضًا شكلٌ من الكتابة».

المقاول سافر في صفقةٍ جديدة، والجندي تلقّى أمر نقله إلى منطقةٍ حدودية، والموظفة المصرفية قالت إنها ستعمل في فرعٍ آخر، أما الخادمة فاختفت فجأة، كأنها لم تكن هنا يومًا.

بقي الحرّ وحده في الكراج، نظر إلى البحر وقال بصوتٍ خافت: «المدن لا تموت، فقط تغيّر أسماءها».

الطريق إلى المدينة الثانية لم يكن طريقًا عاديًا، بل نفقًا طويلًا بين طبقاتٍ من الهواء والعزلة. السماء رمادية كوجهٍ يرفض الاعتراف بالنهار، والغبار يلتفّ حول السيارات كأنه يرافقها بحنانٍ غامض.

في مدخل المدينة، لوحةٌ قديمة كتب عليها: «مرحبًا بكم في المدينة التي لا تتذكّر نفسها».

كان الشاعر أول الواصلين، يجلس قرب نهرٍ صغيرٍ مائلٍ إلى السواد، ويكتب: «ربما ليست المدن من تتنفس هذه الأتربة والدخان، بل نحن الذين نعيش في رئاتها المسدودة».

لم يكن ينتظر أحدًا، ومع ذلك شعر أن الجميع قادمون.

الروائية وصلت في المساء، ترتدي معطفًا خفيفًا رغم البرد، وجلست إلى جواره دون أن تسلّم عليه. مرّ صمتٌ طويل بينهما، ثم قالت: «هذه المدينة تشبه روايةً تُكتب دون مؤلّف».

فأجابها: «وربما نحن مؤلفوها الميتون منذ البداية».

المقاول ظهر في الصباح التالي، يخرج من سيارةٍ فارهةٍ تنبعث منها رائحة الوقود، حمل حقيبته ومشى نحوهم بخطى واثقة، وقال: «هذه المدينة ما تزال بكرًا، يمكننا أن نبنيها من جديد».

ابتسم الشاعر بسخرية: «أنت تبني الجدران، لكن من يبني الهواء؟»

الجندي وصل بعده بساعات، كان وجهه أكثر صمتًا من قبل، وقال حين جلس قربهم: «كلّ مدينةٍ هي جبهةُ حربٍ مؤجّلة».

الموظفة المصرفية جاءت على متن حافلةٍ قديمة، عيناها مرهقتان تبحثان عن عملٍ جديد، في يدها دفترٌ صغيرٌ للديون، وفي قلبها شعورٌ بأنها مدينةٌ صغيرةٌ داخل مدينةٍ كبيرة.

أما الخادمة فقد ظهرت فجأة، كأنها خرجت من أحد الأزقة دون مقدمات، وابتسمت قائلة: «لم أنتهِ بعد من تنظيف المدينة السابقة».

الحرّ لم يظهر بعد، لكن أثره بدا واضحًا في الهواء، والجميع شعر أنه موجودٌ بطريقةٍ ما، كأن المدينة الثانية لا تكتمل بدونه.

في المساء، اجتمعوا مجددًا في قاعةٍ مهجورةٍ كانت يومًا سينما. الشاشة مكسورة، المقاعد مغبّرة، والصوت الخارج يشبه أنين الريح.

قال الشاعر: «أحسّ أننا داخل فيلمٍ يُعاد مرارًا، فقط المشاهد تتغيّر».

ردّت الروائية: «ربما لأننا لم نفهم النهاية بعد».

قال المقاول: «النهاية تُكتب حين نقرّر البناء».

قال الجندي: «أو حين نقرّر الهدم».

قالت الموظفة المصرفية: «أو حين تتوازن الأرقام أخيرًا».

أما الخادمة فقالت بصوتٍ هادئ: «النهايات لا تهمّ، المهم أن يبقى الضوء مضاءً في آخر القاعة».

ثمّ دخل الحرّ فجأة، لم يسمعوا خطواته، وظهر بينهم، عيناه تشعّان كأنهما تريان من خلال الزمن، وقال: «المدن لا تُبنى بالحجارة ولا تُهدم بالقنابل، بل تُخلق وتفنى داخل العقول التي تحلم بها».

جلس بينهم كأنه جزءٌ من حلمٍ جماعي. صمت الجميع، والهواء تغيّر، والسينما القديمة بدت كأنها تعود إلى الحياة. في الخارج كانت المدينة تتحرّك ببطء، الأبنية تتنفس، الطرق تتقلّص، وكلّ شخصٍ يشعر أنه يتحوّل إلى جزءٍ من شيءٍ أكبر منه.

رأى الشاعر جدارًا عليه كتابةٌ قديمة: «من رأى الغبار عرف الطريق». قرأها بصوتٍ مرتجفٍ وقال: «ربما الغبار هو الذاكرة الوحيدة التي لا تخون».

أغلقت الروائية دفترها، المقاول بدأ يرسم شيئًا في الهواء بيده، الجندي جلس يخلع بزّته العسكرية، الموظفة المصرفية بدأت تمحو أرقامها، الخادمة غابت عن النظر، والحرّ كتب على الحائط بظله: «حين تتشابه المدن، تبدأ الحكاية الحقيقية».

عند منتصف الليل، بدأت السماء تمطر غبارًا أبيض يشبه الرماد. لم يكن أحد يفهم ما يحدث، لكن الجميع شعر أن المدينة تناديهم إلى مكانٍ آخر.

قال الحرّ: «المدينة الثالثة تنتظر».

ثم تحرّكت الأشياء كلّها في اتجاهٍ واحد، كأن الريح تحملهم إلى مصيرٍ جديد. الضوء انكسر على وجوههم، وصوت البحر البعيد عاد كما لو يذكّرهم بالمدينة الأولى.

قال الشاعر: «ربما نعيد الدوران حول المعنى، لا الوصول إليه».

ضحكت الروائية: «وهل ثمة معنى غير الدوران نفسه؟»

في تلك اللحظة انطفأت السينما تمامًا، وغمرهم ضوءٌ غامضٌ من فوق. لم يعد أحد يعرف إن كانت المدينة الثانية انتهت، أم تحوّلت إلى حلمٍ آخر داخل المدينة الثالثة.

لم يهبّ الصباح في المدينة الثالثة، بل تسلّل كصوتٍ خافتٍ داخل رأس المدينة نفسها. كلّ شيءٍ بدا متوقفًا بين الحلم واليقظة، السماء متعبة، الشوارع نصف مرئية، والبيوت تنام بعيونٍ مفتوحة، كمن يخاف أن يرى ما يتكرّر.

لم تكن المدينة تشبه سابقتيها؛ كانت خليطًا من كلّ ما مضى: منازل نصف مكتملة، لوحات إعلانية تسوّق لما لم يُصنع بعد، وناس يمشون كأنهم يُعادون إلى الوجود في كلّ خطوة.

وصلوا إليها واحدًا تلو الآخر، كما لو أنهم يخرجون من نسيانٍ قديم.

الشاعر أولهم، بعينين زجاجيتين، يشعر أن اللغة تذوب في فمه كلّما حاول أن ينطق، ويقول: «ربما انتهى كلّ شيء، ولم نكن سوى الهامش في روايةٍ لم تُكتب بعد».

قالت الروائية بهدوءٍ مشوبٍ بالحيرة: «بل ربما ما يزال كلّ شيءٍ يبدأ، والمدينة الثالثة هي الصفحة الأولى التي نخشاها».

المقاول جاء بعدهما، أكثر توترًا من أيّ وقت، أوراقه مبعثرة، وهمس لنفسه: «البناء هنا لا يكتمل، كلّ جدارٍ ينهار قبل أن يجفّ إسمنته».

الجندي وصل متأخرًا، ملابسه ملطخةٌ بالأتربة والعرق، يحمل في عينيه حربًا لم تقع بعد، وقال ببطء: «كلّ حربٍ تحتاج مدينةً تؤمن بها... لكن ماذا لو أن المدن هي التي تبدأ الحرب حين تملّ من صمتنا؟»

الموظفة المصرفية تمشي بلا حقيبة، تمزّق الأرقام القديمة وترميها في الهواء، وتقول بصوتٍ يشبه الاعتراف: «تعبت من عدّ النقود، صار الزمن نفسه مكشوفًا في دفاتري، وكلّ رقمٍ يلد آخر... إلى ما لا نهاية».

الخادمة تعود بصمتها المضيء، وجهها أكثر هدوءًا من قبل، كأنها تجاوزت معرفةً لا يقدر الآخرون على نسيانها، وتقول: «هذه المدينة لم تُبْنَ بالحجارة... بل بالأنفاس».

أما الحرّ، فكان ينتظرهم منذ وقتٍ طويل في الساحة المركزية، لم يكبر، لم يتغيّر، كأن الزمن تجمّد داخله. حين رآهم، قال: «مرحَبًا بكم في المدينة التي تكتبكم».

انطفأت أصوات المولّات والطرقات، وصار الصمت حادًّا كالنصل. السماء تتدلّى بخيوطٍ من الضوء الرمادي، وكلّ شيءٍ بدأ يتحرّك ببطءٍ نحو نقطةٍ واحدةٍ في المنتصف.

المشهد بدا كأنه انفتاحٌ كوني، السماء تنكسر فوق رؤوسهم، والمباني تتحرّك ككائناتٍ حيّةٍ تحاول أن تتنفّس.

ثم دوّى انفجارٌ رمزي، لا صوت له، بل اهتزازٌ داخلي، كأن المدينة لفظت كلّ ما احتوته من تناقضاتٍ دفعةً واحدة. الأتربة تغطّي كلّ شيء، لكنها هذه المرة ليست رمادًا، بل ذاكرة.

حين انقشع الضوء، كانوا واقفين في المكان نفسه، لكن كلٌّ منهم تغيّر من الداخل.

جلس الشاعر على الرصيف، نظر إلى المدينة الصافية وقال: «ربما لم تكن الحقيقة مخفيّة، بل نحن كنّا غبارها».

أغلقت الروائية دفترها، وكتبت على الغلاف الأخير: «النهايات التي نفهمها ليست حقيقية».

خلع المقاول ساعته ورماها في النهر الجاف.

علّق الجندي بزّته على جدارٍ مهدّمٍ وقال: «السلام فكرةٌ بلا جنود».

ابتسمت الموظفة المصرفية لأول مرة منذ زمن، وهمست: «لقد توازنت الأرقام».

أما الخادمة فمشت باتجاه الأفق، تغنّي بلغتها القديمة، وكلّما ابتعدت بدا الشارع أنظف وأكثر إشراقًا.

الحرّ كان آخر من بقي. جلس في منتصف الساحة، فتح دفترًا أسود، وبدأ يكتب بهدوء: «كلّ ما حدث كان ترتيبًا داخليًا للعالم، وكلّ الذين التقوا لم يعرفوا أنهم ذراتٌ في وعيٍ واحدٍ يحاول أن يتذكّر نفسه».

توقّفت الريح، وصار صوت المدينة يشبه نبضًا بطيئًا، كأنها كائنٌ بدأ للتوّ يتنفّس. السماء امتلأت بالضوء، الأبنية استقامت، والكراج القديم تحوّل إلى مساحةٍ مفتوحةٍ نحو الأفق.

أغلق الحرّ دفتره، وقف بهدوءٍ، وقال همسًا: «ربما كانت المدن تحاول منذ البداية أن تتذكّرنا».

ثم سار في الضوء حتى اختفى، وظلّ صدى خطاه يتردّد بين الشوارع الفارغة، كأن المدينة تُعيد نَفَسها الأول.

النهاية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى